بيرستيرويكا. قصة: حاتم رضوان

                                 

    ابتسمتا وأشارتا لي بالجلوس إليهما عندما مررتُ بهما وأطلتُ النظر فيهما.

    افترشتا بقعة من أرض الرصيف في جانب هادئ وخافت الإضاءة من ساحة الفندق، وضعتا سيقانهما الخشبية إلى جوارهما، وجلستا تدخنان، بينما تمسك كل واحدة زجاجة صغيرة في يدها، تتجرع منها بين حين وآخر، كانتا صامتتين، وهائمتين في عالم بعيد.

   سيدتان شقراوان ينطق وجهيهما بجمال صارخ، آيتان من الفتنة والأنوثة، حوريتان هربتا من الجنة، ونزلتا هنا إلى الأرض أمامي، خمنت عمرهما، يتأرجح حول الأربعين، أفاقتا من السرحان وانتبهتا إلى نظرتي المفتونة والمحدقة بهما، ابتسمتا معًا، ووجهتا الدعوة لي: مشاركتهما الجلوس بإشارات فهمتها من حركات الأيدي وإن لم أفسر لغة الكلمات المصاحبة لها.

    كنت أتابعهما من مكاني وأنا جالس على حافة السور الواطئ، يحيط بالنافورة التي ترقص رشرشات مياهها على نغمات الموسيقا والأضواء الملونة، تتوسط الميدان السياحي أمام الفندق ذي السبعة نجوم، كانتا تروحان وتجيئان بسيقانهما الخشبية الطويلة وملابسهما الملونة، تنشران البهجة وسط السائحين بضحكاتهما، ومشاكساتهما للأطفال والنساء والرجال، يرقصون، ويلتقطون الصور معهما، بدتا لي في طولهما المفرط مثل برجين يتحركان بخفة راقصتي باليه، احتفظُ بصورتين لي معهما، أبدو في إحداها قزمًا وهما تحوطاني عن اليمين واليسار، أتأملهما كلما خطرا بذاكرتي، واسترجع قصتهما، وحديثهما الحميم معي، تحكي كل واحدة جزءًا منها بلكنة إنجليزية أجد صعوبة في فهمها، تتخللها بعض الكلمات العربية التي تعلمتاها بحكم الممارسة والاختلاط، قاطعتهما كثيرًا لإعادة بعض الجمل من أجل استيضاح نقطة ما، لكنني استطعت في النهاية رسم لوحة لحياتهما، تكاد تكون مكتملة، وتتبع خط سيرهما من بلدهما البعيد حتى موقع جلوسهما إليَّ في هذه اللحظة.

    صديقتان من الطفولة، عاشتا حياة بسيطة، تلبي أقل ما تحتاجا إليه من متطلبات، تضمهما قرية نائية تقع في أقصى الشمال الشرقي من العالم، تنام في هدوء على حافة الكرة الأرضية، تكسوها الثلوج معظمشهورالسنة، كل شيء فيها بطابور، الخبز، الزيت، السكر، والطعام، أما الملابس والأحذية بطلب مسبق، وعندما يصيبك الدور لتحصل عليها، قد تجد أن المقاس المتوفر لا يناسبك، تعود مكسور الخاطر، تتنظر أن يحالفك الحظ في مرة قادمة.

     تعلمَ أهل القرية من زمن بعيد المشي بواسطة السيقان الخشبية، في موسم ذوبان الثلوج تصبح الأرض موحلة، تتحول إلى برك ومستنقعات شاسعة، ووعرة، لا توجد وسائل مواصلات، تساعدهم على التحرك فيها من مكان لآخر، وسيلتهم الوحيدة تلك السيقان الخشبية، تجنبهم الخوض في الأراضي الطينية اللزجة، وبعد تحسن الأوضاع النسبي، وشق الطرق، وتعبيدها، وظهور وسائل تنقل مختلفة، صارت السيقان الخشبية شاهدًا من الماضي، توارثه الأبناء، يتعلمون منذ صغرهم  المشي والرقص بها كهواية، حتى أنه لا يوجد أحد من سكانها لا يجيد استخدامها، وحدد الأجداد يومًا من كل عام يجتمع فيه أبناؤهم وبناتهم في ميدان القرية الفسيح، يقيمون فيه احتفالًا كبيرًا، يلبسون بأقدامهم هذه العصي الخشبية الطويلة ويرقصون بها، ويأتون بحركات بهلوانية في تقليد يحيي هذه العادة القديمة، واطلقوا على هذا اليوم مهرجان السيقان الخشبية.

    أحسست مع السيدتين بألفة لم أعهدها مع الغرباء، وخصوصًا الأجانب منهم، من أجهل لغتهم وعاداتهم، زالت الحواجز بيننا، واحدًا إثر آخر، وحُلَت عقدة اللسان، وتجاوزنا مرحلة الارتياب والخوف من الآخر، وزادت مساحة الصدق والارتياح، وانساب تدفق الحديث والكلام بيننا، وكأن تَعَارُفَنا كان ممتدًا منذ سنوات طويلة، التقينا بعدها مرة أخرى من جديد بعد قطيعة وغياب.

     في أول تسعينات القرن الماضي ومع هبوط العلم السوفيتي الأحمر بنجمته وشعار المطرقة والمنجل من أعلى قبة قصر الكرملين تغير كل شيء، انقلبت حياتهما البسيطة، لتنحدر إلى ما تحت خط الفقر، عاشت كل منهما سنوات مراهقة صعبة، في أحيان كثيرة لم تجدا طعامًا كافيًا، يخمد آلام الجوع المتأججة في البطون، بحثتا عن أي عمل دون جدوى، لم يكن أمام الفتيات غير شوارع المتعة المنتشرة في المدن البعيدة، أو إعلانات العمالة في الخارج، كجليسات للأطفال، أو مضيفات في الحانات والفنادق، أو راقصات في فرق موسيقية مغمورة نظير أجور مغرية، مجرد التفكير فيها تجعلهن طائرات في السماء، تحلمن بالعيش في رغد، جافاهن طوال سنوات عمرهن الفائتة.

    قدمت لي إحداهن سيجارة، تناولتها رغم أني لا أدخن، وأشعلتها الأخرى، كنت كمن فتح لهما بابًا للذكريات، والبوح، انطلقتا من خلاله تحكيان لي ما حدث لهما، أيام الطفولة والصبا الأولى، مخاوفهما المتجددة من مستقبل غامض، مغادرتهما القرية والبلاد كلها، حتي ركوبهما الطائرة، والنزول في مطار شرم الشيخ بتأشيرات سياحية.

    ساقهما إعلان توظيف إلى هنا، لتكتشفا أنهما وقعتا ضحية لعصابة تمتهن الدعارة والاتجار في البشر وليس مكتبًا للعمالة، كان المخطط أن تقادا مع غيرهن عبر دروب ومسالك سيناء الوعرة، وغير المأهولة، ويتم تهريبهن إلى إسرائيل، واستغلالهن كفتيات ليل، يعانين من الامتهان، والعنف الجسدي، لو استسلمتا ورضيتا بهذا المصير لكان أحرى بهما أن تظلا بقريتهما، ولفتحت لهما شوارع المدينة ذراعيها، تعملان في بيوتها السرية، تحققان ثروة كبيرة، تغنيهما عن السفر والغربة، لكنه ولحسن حظهما ولمفارقات حدثت، يطول شرحها، استطاعتا التحايل، وسرقة جوازي سفرهما والهروب من الفخ المنصوب لهما، والمصير المجهول الذي ينتظرهما، لينتهي بهما الطريق بعد سلسلة من المطاردات والمغامرات إلى هذا الفندق، كل ما تحملانه من مؤهلات: إجادة المشي بواسطة هذه السيقان الخشبية، تعملان به للترويح عن الزائرين والترويج للسياحة كمهرجتين مقابل غرفة في السكن المخصص للعاملات ووجبتي طعام، وبعض المال، يكفي بالكاد لشراء الشراب والسجائر.

    التقطت صورة سيلفي معهما تجمعنا فيها لحظة إنسانية نادرة وفريدة، اقتربت فيها رؤوسنا الثلاثة حتى كادت أن تتلامس وكانت وجوهنا تعلوها ابتسامة واسعة، استأذنتهما في المغادرة، نهضتا معي من على الرصيف، وفُزْتُ من كل منهما بحضن دافئ، ذابت بيننا فيه المسافات، وأمسكتا بعصيهما الخشبية، التي ارتفعت بأيديهما لأعلى ملوحتان لي بها في الهواء، لتجلسا مرة ثانية، وتضعاها إلى جوارهما، وتصمتان، لمحتهما وأنا أبتعد عنهما، تريحان ظهريهما على سور الفندق في استرخاء ظاهر، تدخنان وتشربان وتدندنان بلحن معبأ بالشجن، أجهله، بينما عيني كل واحدة منهما تنظران في اتجاه مختلف.

أضف تعليق