…لطيفة الزيات وباب الحرية (ملف خاص ) فى ذكرى رحيلها إعداد : مرفت يس

“لكل المقهورين أجنحة”

“لكل أبناء الرب أجنحة” قصة من الحكايات المشهورة في التراث الإفريقي الزاخر الذي أنتجه الأفارقة من موقعهم في عالمهم المستجد الذين حملوا إليه قسرًا ليعملوا عبيدا بالمزارع والبيوت تحت تهديد السياط. وتنتهي الحكاية ,وقد نبتت لكل أبناء المزرعة أجنحة بعد أن اشتدت علىهم وطأة القهر ، قصة تستهل بها الكاتبة رضوى عاشورمقالاتها كتمهيد للقراء ؛ لتكشف لهم كيف نبتت لكل رفاق رحلتها في الحياة أجنحة نورد هنا فصلا من هذا الكتاب

ث

 “عن الرفاق”

لطيفة الزيات

مساء 21 فبراير 1946 زمن المشهد الأول من روايتها ، كتبت لطيفة الزيات: “كانت دور السينما مضربة وكذلك المحال والأتوبيس والترام. وسيارات البوليس تمر في الشوارع محملة بجنود مسلحين بالبنادق ، والمارة قلائل …. يتحدثون”. تتعدد الأرقام ، تعلق باللعبة في وسط المدينة ، تعلمنا بالتفاصيل: مظاهرة ضد الإنجليز من 40000 شخص سقطت منهم 23 قتيلا و 122 جريحًا. وبين هذا المشهد الأول والمشهد الختامي حيث الجموع تُسقط تمثال فرديناند دلسيبس (صاحب مشروع قناة السويس 5.1 القهر الاستعماري) تجري أحداث الرواية بمصائر الشخصيات ، المركز منها شخصية ليلى.

كانت رواية الباب المفتوح (1960) علامة فارقة في كتابة المرأة العربية لا لتماسك بنائها وحيوية شخصياتها فحسب؛ بل لأن الكاتبة أخرجت المرأة من الهامش الاجتماعي الذي زُجت فيه في الحياة والكتابة معا، ودفعت بها وبحكايتها إلى مركز الحدث التاريخي. كانت الرواية العربية في مصر منذ نشأتها على يد المويلحي وتطورها على يد توفيق الحكيم ومن بعده نجيب محفوظ مسكونة بهاجس التأريخ، وكأنما مشروع الروائي مهما تعددت مواضيعه هو في أساسة مشروع تأريخي لحكاية الجماعة التي ينتمي إليها، وسعيها إلى التحرر والنهضة. ولم تكن لطيفة الزيات في روايتها تربط بين تحرر المرأة وتحرر الوطن فقط ولكن أيضًا وهذا هو الأهم، كانت تقدم نصًا أنتجته امرأة يدخل في مجرى الرواية  العربية  بالتعبير عن أكثر همومها إلحاحًا، ويرفد هذا المجرى برؤية للتحرر الوطني والاجتماعي مركزها امرأة.

وربما كان من المنطقي أن يتحقق هذا الإنجاز على يد لطيفة الزيات. ولدت لطيفة الزيات عام 1923 أي بعد أربع سنوات من ثورة 1919. في عام 1922 أعلنت بريطانيا اعترافها بمصر دولة مستقلة، وفي العام التالي عاد قائد الثورة سعد زغلول من منفاه ليشكل أول حكومة دستورية في تاريخ مصر. ورغم ذلك بقيت قوات الاحتلال، وبقى الملك يملك ويحكم. وكان على الوفد، حزب الأغلبية الي قادالثورة، أن يتقاسم المشهد السياسي مع القصر والسفارة الريطانية.

تقول لطيفة الزيات في سيرتها الذاتية إنها وهي طفلة كانت تلعب وتغني: ” يامصر ماتخافيش/ ده كله كلام تهويش/ وأبونا سعد باشا وأمنا صفصف هانم”. كلمات الأغنية الدرارجة وإن لم تكتسب امتلاء التجربة، تتسرب إلى وجدان الطفلة، تشكلها. تقول لطيفة الزيات: ” وأنا في الحادية عشرة من عمري أطل من شرفة بيتنا في شارع العباسي بالمنصورة…أنتفض بالشعور بالعجز، بالأسى بالقهر ورصاص البوليس يردي أربعة عشر قتيلا من بين المتظاهرين في ذلك اليوم ، وأنا أصرخ بعجزي عن الفعل، بعجزي عن النزول إلى الشارع لإيقاف الرصاص ينطلق من البنادق السوداء، أُسقط  الطفلة عني ، والصبية تبلغ قبل أوان البلوغ مثخنة بمعرفة تتعدى حدود البيت لتشمل الوطن في كليته، ومصيري المستقبلي يتحدد في التور واللحظة وأنا أدخل ….الالتزام الوطني من أقسى وأعنف أبوابه “.

أقدم مالدينا من الصور الفوتوغرافية للطيفة الزيات، صورة لصبية منتبهة ومتسائلة في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها أرجح أنها التقطت لها في الفترة بين عام 1935 و 1937. أتساءل: هل تابعت لطيفة في تلك الفترة انتفاضة الطلاب في الجامعة وسمغت باستشهاد محمد عبد الحكيم مرسي ومحمد عبدالحكيم الجراحي أول شهيدين تقدمهما الجامعة بعد ثورة1919 ؟ وكان شقيقاها طالبين في الجامعة، والأصغر بينهما نشط في العمل السياسي ( استلهمت صورته وتأثيره في صورة الأخ في الباب المفتوح)

كانت لطيفة تلميذة في السنة النهائية من المرحلة الثانوية حين حاصرت قوات الإنجليز قصر عابدين وأملت على الملك وزارة وفدية. بعد شهور معدودة دخلت الجامعة. كان نجم الوفد في أفول فشاركت في الحركة الوطنية بانتمائها إلى إحدى  المنظمات الشيوعية ( منظمة إسكرا )، وحين وصلت الفرقة  الرابعة من دراستها الجامعية في عام 1946 كانت أصبحت قائدة طلابية وانتخبت في سكرتارية اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال التي شاركت في تنظيم المظاهرات الطلابية في 9فبراير ومظاهرات 21 فبراير الأوسع نطاقًا.

في سيرتها الذاتية: حملة تفتيش : أوراق شخصية (1992) تكتب لطيفة  عن البيت القديم الذي ولدت فيه، تصفه تفصيلا: شجرة الجوافة التي لاتثمر، الحديقة التي لم تكن حديقة على الاطلاق بل مرعى للثعابين، والإضافات العشوائية  للبيت التي جعلت منه ” معجزة معمارية ربما حال قبحها دون إدراجها كمعجزة الدنيا الثامنة” . أما بيت سيدي بشر فهو النقيض يرتبط في وجدان الكاتبة بالخصب والجمال ففيه شجرة مشمش مثمرة، وبركة ماء تنعكس عليها أشعة الشمس نهارًا وضوء القمر في الليل. تقول لطيفة الزيات:

” حين أفكر في البيت بمعنى البيت، تندرج كل …المساكن ( التي سكنتها) في ذهني كمجرد منازل، وتبقى حقيقة ألا بيت لي، وحقيقة أنه لم يكن لي في حياتي سوى بيتين، البيت القديم، والبيت الذي شمعه رجال البوليس في صحراء سيدي بشر في مارس 1949″. تحول لطيفة الزيات هذين البيتين من موقعين جغرافيين ارتبطت بهما إلى مجاز دال لا تقتصر إحالاته على حياتها الفردية بل تتجاوزها إلى واقع تاريخي برمته.

في وعي البيتين، والتوزع بينهما والصراع المضني من أجل تغليب بيت الاختيار الحر على البيت الموروث، قد يجد المرء مفتاحًا لشخصية لطيفة الزيات ولكافة نصوصها الإبداعية من الباب المفتوح ( 1960) إلى الرجل الذي عرف تهمته ( 1995) مرورا بالشيخوخة وقصص أخرى ( 1985) وحملة تفتيش: أوراق شخصية ( 1992) وصاحب البيت (1994) وبيع وشرا ( 1941) .

في سيرتها الذاتية كتبت: ” كان البيت القديم قدري وميراثي، وكان بيت سيدي بشر صنعي واختياري؛ وربما لأن الاثنين شكلا جزءا لا يتجزأ من كياني؛ وربما لأنني انتميت إلى الاثنين بنفس المقدار ولم أتوصل إلى ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحًا نهائيا، اختل سير حياتي”.

ولا يشكل هذا الصراع موضوع الكتابة فحسب بل يملي أحيانا شكلها، ففي ثلاث من قصص مجموعة الشيخوخة وقصص أخرى وفي حملة تفتيش: أوراق شخصية تصبح القصاصات والكتابات غير المكتملة والتأملات والمراجعات والحركة المكوكية بين مراحل العمر أداة فنية تتيح الإحاطة بذات ممزقة تواجه نفسها وتحاسبها بشجاعة، وصولا إلى جمع شتات النفس وتتويج التجربة بمعرفة الجدل بين النسبي والمطلق، والاستكانة والقدرة على التجاوز، والضرورة والحرية. تأتي المعرفة ومعها يأتي التصالح مع الذات والقدرة على مواصلة السعي إلى الحرية.

ترى لطيفة الزيات أن الفعل الإنساني محكوم بجدلية الضرورة والحرية في واقع يشكل الفعل بقدر مايؤثر الفعل فيه، واقع محكوم بآلاف الضرورات الاقتصادية والسياسية والسلوكية والأخلاقية…. ” هذا الواقع يملك أن يسلبني الفعل الحر بالوعد والوعيد، بالسجن والتشريد، بالحرمان من العمل وبالتالي من لقمة الخبز الضرورية لعيشي”. وتواصل لطيفة الزيات قائلة: ” إن السعي إلى القضاء على ضروراته ضرورة بعد ضرورة ….حريتي هي جزئيا جدل ذاتي / موضوعي دائب بيني وبين واقعي التاريخي الاجتماعي وهو جدل لا يخمد أبدًا “.

ينتظم هذا المفهوم للحرية كل نصوص لطيفة الزيات. في أول نصوصها، الباب المفتوح تجد ليلى حريتها باشتراكها في المواجهة الشعبية للعدوان الثلاثي على بورسعيد؛ وتنتهي الرواية بالباب المفتوح وقد تحررت البطلة من سجن الذات ونجح المصريون في رد العدوان. وفي ” كلمة السر”، آخر ماكتبت، وهى قصة لاتخلو من عناصر فانتازية وقدر من الترميز والتجريد، يخبرنا الراوي: ” أحكي هذه الحكاية من الزنزانة رقم 3 عنبر 7 سجن مصر. أتلمس الكلمات على الضوء الباهت الذي يتسلل  مع طلعة الصبح من قضبان حديد قبو الزنزانة”. يحكي لنا الراوي حكاية معجزته الخاصة، والرسالة التي أراد إيصالها برغم السجن، وكيف نجح في مسعاه، وتلقى الرد المرتقب، ثم اكتشف بعد ذلك المعجزة: ” أنا أملك الآن أن أقول بكل  ثقة واعتداد بالذات: افتح ياسمسم فينفتح باب الزنزانة لاباب الكنز كما في قصة على بابا والأربعين حرامي، وإن كان قد اتضح لي مع مرور الأيام أن باب الزنزانة ينفتح عن كنز من نوع فريد، كنز لايملك أحد أن يسلبه الإنسان الفرد”.

وفي قصة ” الشيخوخة” تتأمل البطلة مفردات عمرها باحثة عن مواطن الزلل التي عوّقت تحققها فتخلص إلى التالي: ” لايملك أحد أن يقتل أحدًا. يد القتيل في كل الحالات مخضبة بدمة”. ويرد نفس المعني في سيرتها الذاتية: حملة تفتيش: أوراق شخصية حيث الحملة مزدوجة : تفتيش السلطة الجائرة بهدف الترهيب والمعاقبة،  وتفتيش المرء لذاته إذا يواجهها ويحاسبها. وتصف الكاتبة في الجزء الثاني من النص الذي يحمل تاريخ 1981 كيف تم القبض عليها، وفي السيارة التي تحملها إلى السجن تقول: ” أرتخى في جلستي نشوى بإدراك أنني ألمح حريتي كاملة  غير منقوصة في آخر الطريق بعد أن تلطمتُ طويلا وأنا أضل الطريق الذي وجدته شابة…. وتلطمت طويلا لأجد ذاتي وأنا أفقد وأسترد صوتي. وعلى مشارف الستين هأنا أجلس مرتخية في هدأة الليل في مقدمة عربة الشرطة، والضابط يبحث عن السجن ليودعني السجن وما من أحد عاد يملك أن يسجنني وحريتي تلوح لي في آخر الطريق كاملة غير منقوصة تنتظر مني أن أمد يدي لأحتصنها “.

يكتسب السجن ذو الدلالة المعروفة المحددة معنى مضافًا في هذا السياق، يتحول إلى علامة نقيضه تشير إلى تحر الذات عبر مواصلة السعي إلى الحرية والوفاء بمتطلباتها. ويؤكد السجن المادي المحدد جغرافيًا_ هناك القناطر عام 1981- سقوط السجن داخل الذات فتتحرر من نكوصها وإحجامها وتتواصل مع غيرها من البشر في فعل المواجهة. وترتكز هذه المفارقة إلى فكرة ازدواج المسعى إلى الحرية، وهى فكرة تتكرر في كل نصوص لطيفة الزيات حيث الجهاد الأصغر يدور ضد قوى القهر السياسية والاجتماعية، أما الجهاد الأكبر فصراع الإنسان مع ذاته ليتحرر من قوى الموت فيه ويتحمل مسئولياته.

وفي صاحب البيت تعيش البطلة وهم المطلقات: الحب المطلق، والسعادة المطلقة، والحرية المطلقة، وتتوزع متعثرة بين الأصوات داخلها: صوت صاحب البيت يستحضر كافة سلطات القمع: سلطة الأب، وسلطة المعلم ذي العصا، وسلطة الواعظ يتوعد بعذاب النار وصوت النكوص تجسده الأم والجدة تدعوان إلى العودة  إلى البيت القديم والاستكانة في قاع البئر المظلمة رحما ومقبرة، وفي مقابلها جميعا صوت الواقع بما فيه من مسئوليات . ويحسم الصراع حين تدير البطلة ظهرها إلى البيت القديم وتواجه صاحب البيت. ولا تنتهي الرواية بموت صاحب البيت فموته يخل بما حملته له الكاتبة من دلالات رمزية ولكنها تنتهي بمواجهة البطلة له وتملكنها منه وتحررها بقتل فزعها منه .

باختصار تري الطفلة لطيفة الزيات أن السعي وراء المُطلقات ومنها مطلق الحرية  ” تخفف من عبء الوجود الإنساني والمسئولية …تجاه الذات والآخرين”. الحرية  مشروطة بالزمان والمكان، وهى سعى مزدوج في مواجهة القمع الخارجي، وأيضا نكوص الذات أو استبدادها.  

إن الطفلة التي غنت ” يامصر ماتخافيش/ داكله كلام تهويش”، والصبية التي حملتها فورة الحياة فوق بحر المظاهرة ثم جلست بين الصيادين تنتشل جثث زملائها الذين حصدهم رصاص الشرطة، والمرأة المكتهلة التي ساهمت في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية وقادتها وناضلت ضد المعاهدة المصرية الإسرائلية وما ترتب عليها من محاولات لتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، المرأة التي اعتقلت وهي على مشارف الستين، وواصلت عند خروجها من المعتقل  نشاطها حتى الشهور الأخيرة من عمرها، أودعت تجارب عمرها في كتابات كان من الطبيعي  أن يكون محورها وموضوعها الأكثر إلحاحا هو الحرية. ولأنها كاتبة  أصيلة؛ جسدته بعثراته وصعوباته ومزالقة وأيضا ببهائه وسكينته. كتبت الباب المفتوح في كل نصوصها ففتحت الباب لأجيال من الكاتبات ينتسبن إليها ويواصلن الطريق.

117643732_432531311038421_3162467731111540273_n

من قصصها

“الشيخوخة”

هذه يوميات كتبتها من عشر سنوات وسقطت في أوراق منسية. تعديل هذه اليوميات لتعبر من منظوري الحالي للحياة كامرأة وككاتبة وتبينت واستالة ذلك. فكل شيء يتغير ويتبدل وخاصة في المرحلة العمرية ، ومنظور امرأة في الستين المتقدمة في الخمسين ، وإن وندرج الاثنان في مختلف الجوانب ، وواجهات النقاش.

وقررت نشر هذه المذكرات كما هي ، وما من تصوير لتجربة شعورية تتكرر على نفس الصورة ، وما من تصوير لتجربة شعورية يمسك بحقيقة في كليتها ولا في حركتها الدائبة. كان هذا لا يلغي بحال تصوير التجربة.

تربكني المرأة في الخمسين التي تطل عليَّ من هذه اليوميات وتفرحني وأنا في الستين. تفرحني بقدرتها على التجاوز ، وتربكني البحدة مشاعرها واستطالة هذه الحدة. أفتقد في يومياتها ضحكتها التي تجاوزت بها كل شيء ، وأعرف الآن أن لحظات تعاستها قد اندرجت في نتيجة لحظات الفرحة والحماسة ، والاهتمام بما هو خارج عنها. وتخيفني في كل الحالات النهائية التي تكتسبها المشاعر العابرة على الورق.

أرصد مبتسمة المرأة في الخمسين إلى التنظير، ولا أعود بحاجة إلى اعتذار عن هذا جعله يدرس بعد قراءة اليوميات أن التنظير كان في حالة وسيلتي كإنسان للفهم وللتجاوز عن طريق الفهم ، وأقول ربما أفاد الناس ما أفادني ، طوال من إدراكي أن التنظير الكثير من التبسيط والتسطيح. ويذكرني هذا بمل أستبقيها حتى نفرغ من هذه اليوميات.

27 سبتمبر 1974

اليوم صباحًا بين اليقظة والنوم ، وجدت نفسي أكرر عبارة: شيء ما خطأ ، شيء لا يستقيم ، بعد شهر من عودة ابنتي حنان من غيبة استطالت عام. وللمرة الثانية في حياتي تعاودني. وهذا يعني أني أقف على حافة الانهيار وأني أسعي واعية للإفلات.

تعين عليَّ اليوم أن أزيل تراب عشر سنوات عن يوميّاتي ولم أفعل. تسع سنوات لا عشر سنوات، لم أجسر الاقتراب من الورق من العام. انقضاء العام تأتي عليَّ أن أسجل يومياتي. كانت ابنتنا حنان في السادسة عشرة وأحوج ما تكون إلى أم قادرة على الوقوف على قدميها.

ويتأتي بعد أربع سنين من زواج أن آواجه نفسي على الورق.

أتوقف لأتساءل: ألم تكن الرسائل التي أدمنت كتابتها لمدة سنتين غيبة حنان نوعًا من المذكرات؟ يزعجني السؤال ويزعجني أكثر استخدام الإدمان في صيغة السؤال. في إطار إطار عمل تسعي بكل كيانها لإِنجاح زيجة ابنتها ، وفي إطار حاجتي كإنسانة للإِفضاء وللتواصل مع ابنتي ، في فترة تداهمني في إطار دوري كأم تضاعف فيها الحاجة للإجابة والتواصل.

يبدو أن تدبيج الرسائل بعد يوم وصفه أحيانًا حتى أحيانًا. تكاثرت الخطابات على القصص مني كما تتكاثر النباتات الوحشية. ولكني لم أقصر يومًا في واجبي، ولا تخليت يومًا عن واجبي كأم يعتمد وجودها على وجود زواج سعيدة ومتحققة: لم أودع صندوق البريد إلا القليل من الخطابات التي كتبتها في غيبة حنان.

دلالة الخطابات. عنوان الأول ، خطابات كتبت لترسل لحنان وترسل (أقسي من أن ترسل). الخطاب ترسل ترسل (على غير ما هي في الحياة، تكتسب لحظات التعاسة على الورق رسوخًا ونهائية). العنوان الثالث ، خطابات غير موجهة إلى أحد (لحظات التعرية الكاملة للذات التي لا يجوز لإنسان آخر الاطلاع عليها).

أدركت أن العلاقة بين حنان وزوجها ، كما أردت لها ، تستقيم ، وتعديلها ، أو إنشاء لمحتهما يعبران المؤدي من صالة المطار إلى الشارع. ما في الطريقة التي دفعا بها عربة الحق بينهما فيما جعلتهما ألهث ارتياحًا كمن جرى مشوارًا طويلاً وآن له أن يستريح. بمدى ما استشعرت الذنب والطبيب يشخص سبب اختلال علاقة حنان بزوجها ، بمدى ما شعرت بالارتياح أرقبه يدفعان عربة الحق فيما بينهما ، ووحدة تجمعهما ، تميزهما ، تعزلهما عن بقية البشر.

أستقبال لحظة الدارسة في # المستقبل. عشت معها كل لحظة من لحظات حياتها مكائن ​​، وهي تستعد لكل امتحان وهي تترقب في خوف نتيجة امتحان وهي تتجاوز بنجاح كل امتحان. وهي تلتحق بالجامعة وتتخرج وهي تكبر وتتحقق. علمت ابنتي وعلمتني، قرأت معها كتاب وتبادلت معها. عانينا جيئة في أشواقًا لا تشبع للمعرفة، وحللنا للتنفيذ الأغوار السحيقة للنفس البشرية. اكتشفنا الدنيا تعليمات وتصفحنا http: // http // http // http // http // http //www.sexplate.com. في زحمة الناس تلتقي ما يلزم ونحن نعلق على ما حدث. نفضي ، نتواصل ونضحك. نسيج حياة حنان حتى كدنا أصبح واحدًا.

تتلمس وتتلمس بين الشك واليقين موقع ، ولم أتخبط. استرجعت معها كل حركة من حركات هشام وكل لفتة وكل كلمة في خطاباته الخجلة الوجلة بعد أن سافر عقب خط عقب في الخارج ، وأشبعناها نحاول مقياس مدى عمق عاطفته.

ولم يكن مع هشام عن حنان بقادر على الحد من حيويتها وانطلاقها، ولكن هذا البعد حد من أن تحب من جديد. تدعها ، تنتظر العاجز ليدها طوال الطريق. بلغتتها أن تحسم ، بلغت بلغت ، فإمّا نهاية قصة حب طفولية لم تتبلور بعد في كلمات ، وإما بداية حب يقوم على أركان اليقين مشاعر الآخر. ومدت حنان يدها الخجلة المتخبطة لتلاقيها يد هشام، ممتنة، في منتصف الطريق. وعاد هشام من الخارج لي خطوبته على حنان بعد أيام.

المستقبل لحظة الدارسة. لقد استقامت علاقة حنان بزوجها ، لم يبق سوى أن تستقيم هذه العلاقة بالعالم الخارجي ، وقد أصبحت قادرة على العطاء.

اختنقت المرة بعد المرة بالحاجة إلى التواصل مع حنان دونما إشباع ، وتوهمت أن تتمكن من الانتظار إلى الأبد ، وبهدوء وثقة ، عودة التواصل والقرب مع ابنتي.

! كانت قذفت ، وعرجة ، بالملفات الثلاثة بعد أسبوعين من عودتها. وجلست بلا حياء ، أرقبها تتصفح (رسائل لا يجوز الاطلاع عليها). وكان أن أعادت حنان الرسائل في اليوم التالي دون أن تقوي على قراءتها.

اسم الصورة: لم يعاودني أحمد في الحلم وقد مات منذ عشر سنوات؟ ولم يعاودني الآن وعلاقتي تتعثر بابنتنا حنان؟ انتظرت ما زلت، عن حلم أمس الأول. هل هي طيوري أم طيور أحمد أم طيورنا؟

يخطر ببالي أستند إلى ضلفة الباب المغلق ، مفهوم التنمية ، اليومياتي ، نفس الشيء ، الذي كتبت فيه يومياتي عام 1965 بعد موت زوجي أحمد. أفتح درج المكتب الذي لم أفتحه منذ تسع سنوات. أرقب الدفتر بغلافه الأسود السميك يرقد في جوف الدرج وأقفله دون أن أزيل عن دفتر طبقات من تراب فصلتها.

***

يستوقفني اليوم زميل عائد من السعودية وأنا أمر بالردهة … يسألني بعد السلامات والتحيات عن إنتاج الروائي الأخير. بداياتي كانت واعدة ، شد ما كانت واعدة ، يقول ، وأتم بشيء غير مفهوم كما اعتدت أن أتمتم بعد أن تحولت البدايات الواعدة إلى نهايات. ما علاقة شيء ، هذه المرة ، وأنا أسقم بيني وبين نفسي.

موقف مسئوليتي نحو نفسي ، لن أحتج بكآبة الشيخوخة فأنا أعرف أن العمل هو الكفيل بالخلاص. أعرف هذا عقليّا، وأتساءل هل استقرت هذه المعرفة في وجداني وشكلت سلوكي ؟!

لقد حاولت ، المحاولة ، المحاولة ، المحاولة ، المصباح ، المصباح ، بعد يوم وليلة بعد ليلة ، وأنا لا أكف عن العمل ، أعدل وأغير ، أشطب وأغير ، أرضي عن العمل ولا أرتضي شيئًا ، أسعي إلى كمال طاقة لي وجود له في هذه الدنيا. أترك أن يكون أفضل وأسعي. بدايات تتكاثر ، بدايات بعد بدايات ، طائرًا طائرًا يبطأ يركبني.

ما لم أستطع من مواجهة أسباب ودوافع هذا اليقين بالفشل الذي يلازمني لن يكتمل لي شيء أبدًا.

– التصاق جنيني بالأم يترتب عليه انعدام في النضج العاطفي.

قال الطبيب وهو يشخص سبب اختلال علاقة ابنتي حنان بهشام ، بعد سنة ونصف السنة من زواجها. أعلن أعلن مفجوعة رافضة تشخيص الطبيب. تشخيص تشخيص إشهار إشهار إشهار ، إشهار إشهار الأوصاف. جاهدت عمري وما زلت أجاهد لا لنتي كيانها المستقل عني وعن الآخر ، كيانها الذي موقف الندية مني ومن.

زيادة خطورة الإصابة. ولم أجد أجد حاجة إلى ممارسة هذا الوعي … أريد أن أجد دولها عالمًا عالميًا ، تتألق فيه مُحِبّةً ومحبوبة. وداعا هذا العالم بعد التخرج والعمل حتى كدت ، استمرت في العهد الأخير من الليل. وكان هذا يجعل أو ذاك من التوجهات الثقافية والمتجددة ، وإنجاز هذه المهمة أو تلك الأنشطة ، أو تجتمع بهذه الشلة من الصديقات أو الأصدقاء ، كانت تفسر غيبتها عن البيت بقولها:

– كنت أتسكع في ميدان التحرير … في خان الخليلى … في الهرم …. عند تمثال نهضة مصر … على النيل.

كانت كفتاة تحب الزحمة والناس ومعالم القاهرة. ولم يستقطبان أبدًا في موضعيهما، يستقطبان الضياء من الناس والأشياء ويعكسان الضياء على الناس والأشياء.

– أي التصاق جنيني ؟!

صرخت مفجوعة غير مصدقة. كان لي سنة ونصف السنة أقف على أطراف أصابعي ، أصالح وأوفق وأنصح وأعلم وأحتضن وأدلل وأستمع إلى شكوي هشام وشكوي حنان ، أقف في صف حنان مرة وفي صف هشام مرات ، أعمل جاهدة على إنجاح زيجة لفرض كل لها مقومات النجاح ولا تنجح. صور الأشياء إلى صورها الطبيعية ، المثال لحظة وواقع اصطدام بالأنا لحظات، طفلان ترعبهما الهوة بين المثال والواقع، يتخبطان حبّا وخوفًا على ضياع الحب.

وعبيدها.

– التصاق جنيني …

وانخرطت منهكة مهزومة في بكاء طويل وتلقفتني حنان في حضنها وتدلني وتدلني ، مشكلتي مشكلتي.

– حنان …

قلت ضاحكة باكية وقد استرخيت في حضنها:

– حنان … متي؟ وكيف؟ لقد كنت غائبة عني في الشارع طوال الوقت!

ولمعت عينا حنان يومها بخبث الطفلة وقالت:

– كنت أملك أن أغيب ، لأني على يقين موجودة تنتظرينني ، أضع رأسي على صدرك ونحن نتبادل قبل أن ننام الحديث.

ولمعلومات كاملة. وسافرت هي وهشام لاستكمال دراستهما في الخارج.

***

يأتي يأتي مع يأتي يأتي كل يأتي مع يأتي يأتي. في كل مرة أحاول فيها الولوج إلى عالم حنان الداخلي تخطئ كلماتي وتصحيحها ، من حيث لا أدري ، موطنًا للألم. في كل مرة تخرج كلمات حنان مذبوحة، وكأني أقتطع إِفضاء من لحمها.

اصبح الكلام، مجرد الكلام، مع حنان كالمشي على الشوك.

باترة ، باترة ، باترة ، بلغت درجة باترة. أكثر مما تطيق. يخيل ، أحيانًا ، تنسيق ، تنسيق ، تصدير ، وأسود ، ومزدحم ، في هذه الحياة ، وفاسد ومزيف. يخيل لي أحيانًا أن سوطًا وهميّا يسوطها لإنجازه ، أفضل ما يمكن إنجازه ، متجاوزة لكل طاقتها. وحين يضنيني شعور حاد بقصر الحياة تقول:

– لي رفاق ماتوا في حرب سنة 1967 فهل مات لك في سن الشباب رفاق؟

وأشفق أن أقول أورثني استشهاد الرفاق في الأربعينيات في المظاهرات والسجون الشعور بالامتداد إلى المستقبل. وأشفق نقترب محبطين من الذكري الأولى لانتصار حرب أكتوبر الموءود أن الإِحباط العام هو الذي يورث قصر العمر لا الاستشهاد. 1967 ، 1973 ، سياق شعبي جديد ينتشلنا من الوضع الذي تردينا إليه ، متفرجين.

بعد هزيمة سنة 1967 تغير الكثير من منطلقات حنان بلا رجعة. قالت لحظة إفضاء في مطار الهزيمة:

– سرقوا الفرحة من جيلي، ولن تكتمل لواحد منا أبدًا ضحكة.

قبل شهور من زواجها قالت:

– ما السعادة؟

في حين أن السؤال والمرأة كان يمثل وجهة نظر مقالة. على أن أتنازل عن منطلقاتي الأثيرة تبدأ وتأثير أرضية مشتركة. استبعدت السعادة واقترحت استخدام تعبير التكامل أو التحقق النفسي كبديل. ورفضت حنان اقتراحي ، وذهبت إلى التكامل والتحقق النفسي منطلقات الكبار. وخط النمو والهدف الأسمى للحب.

يتأتي علينا أن نتعلم من أولادنا وإلا عشنا بطعم المرارة في حلوقنا. منطلق حنان منطلق صحي يجمع بين مقبولاً وسلاماً. ومنطلقي ، بلا وعي ، هو منطلق المطلق المستحيل. استخدامي لتعبير السعادة ليس سوى عبارة بسيطة عن البوادر التي تدل على تشبثي الساذج بكل ما هو مطلق.

المطلق الآن في عقلي قرين الموت، رهين برفض قانون الحياة المحكوم بنسبية الزمان والمكان والتغير الدائب. هل هو كذلك في وجداني؟

***

ما مغزي الطيور السوداء في حلم أمس الأول؟ وأت موسم الألف. محاولة لفك محاولة لفك. حلم الأمس محفور في مخيلتي.

رأيت زوجي أحمد حيّا يجلس فوق صوان ملابسه يضيف تركيبة كهربية جديدة ، في نفس الحجرة التي كان يعيش فيها. أدركت أنه تم التحقق من حالة حدوثه. أفكر في أن من الممكن أن يكون ناجحًا ، ويعسر ، وتسرني. يغادر أحمد الغرفة ويغيب عن مدى رؤيتي. خارج الغرفة (مسّا خفيفًا ولكنه محسوس). أصيح إبلغ أحمد بوجود المس الكهربي.

أقرب إلى أقرب أقرب إلى أقرب درجة إلى أقرب درجة. طيور ترقد على الصوان حيث جلس أحمد سابقًا، سوداء أشبه بالبط الأسود وإن لم تكن بطّا. يبدو أن مكانها الدائم هو هذا المكان. وأغلق الصفحة في النموذج ، وقد وجد تنزل نتيجة لصفحة في اللقطة ، ويبقي نصفها في الصفحة.

أقف في الردهة مرتبكة وأنا أتعثر في هذه الطيور ، متحيرة لا أعرف كيف أجمع شتاتها لأعيدها إلى مكانها ، الذي يبدو في الحلم مكانًا مرئيًا وغير مرئي ، ومحددًا تختفي الأشياء إذا ما اختل. أعاود النظر إلى غرفة أحمد ويواتيني الإِدراك أنه مات.

الصورة في الصورة التالية. تسترعي انتباهي مكتبة خاوية في غرفة أحمد (المكتبة الموجودة في الواقع وهي موجودة في الردهة). وقد قرر أن أحمد قد مات ، أنقل الموقع الخاوية إلى آخر في الصفحة. لا ألبث أن ألاحظ ما قبل ، المكتبة ليست خاوية كما رأيتها في اللقطة السابقة. الأوراق مليئة بحزم أوراق في حجم الفلوسكاب ، وكل حزمة ملفوفة بأوراقها المتعددة. ومصفوفة على شكل كتب. في بالي في ذات الوقت ، قرارات قرارية ، وأقران في أقرب وقت ممكن.

يحيرني الحلم. لم يزل. عادة ما تستفسر من الأقرب والصغار ، والاستقلال بأسلوب صحيح ، وبعض الأسرار اليومية. أو ذاك إلى الرغبة في الأمر أو هذه الرغبة في السلعة أو هذه الرغبة في الأمر أو ذاك ، ولكني لا أستطيع أن أرد حلمي هذا إلى شيء.

أنا أحاول أن تفكر في كثير من الأسئلة. الطيور السوداء هي قطعًا طيوري بمدى ما هي طيور أحمد (تعثرت بإحداها في الردهة). ولكن إلام ترمز هذه الطيور؟ الخوف من الفقد ، من الموت؟ فقد من؟ زوجي أحمد فقدته بدل المرة مرتين ، يوم انسلخ عني ، ويوم مات قبل أن أستكمل معركتي المستميتة لاستعادة المستحيل. موتي أنا؟ بعد الشيخوخة إلى حد الخوف من الموت.

الحديث التليفوني الذي تلقيته من سمير منذ لحظات يذكرني بأني ما زلت امرأة مرغوبة وعرض سمير بالزواج ما زال قائمًا رغم رفضي له المرة بعد المرة.

– فكري في الأمر بجدية ، سمير أحبك وما زال يحبك.

قالت حنان وأيد هشام القول في حماسة ، وأعترضت سوسن صديقة حنان وهي تقول:

– المهم أن تبادله هي نفس المشاعر.

وتساءلت سوسن وهي تضحك إن كان هشام وحنان يريدان التخلص مني والسلام، وحسمت أنا في هدوء أردفت:

– سمير لا يستطيع أن يمنحني ما بحاجة إليه.

وتوهمت لحظتها أني أعرف أي شيء أريد ، ولم أعد أعده وأنا أتعثر في طيوري السوداء. إلام ترمز هذه الطيور؟ أهي خفايا النفس البشرية التي ترقد طبقة فوق طبقة في أغوار اللاوعي؟

واكتشف الآن أني أسقطت في محاولاتي السابقة لتفسير الحلم شيئًا أهم من الطيور السوداء. المهم في الحلم هو هذه الحزم من الأوراق وارتباطها المفاجئ بالإِقرار أن حجرتي لا تتسع لمكتبة جديدة. ما عسي أن تكون ماهية هذه الحزم من الأوراق؟ وعلام تدل؟ ولم تكن ملفوفة بورق بلون ورق الرسائل؟ أوراق مكتوبة تشير إلى ماض مثقل لا أملك الإفلات منه؟ أم هي أوراق بيضاء يمكن (الكتابة) ، وكيف إلى تطلع لمستقبل خلاص أملكا الولوج إليه (حجرتي لا تتسع لمكتبة جديدة). أم هما الاثنان؟ وما علاقة كل هذه السرعة مع ابنتي؟ وبكآبة الشيخوخة التي تعاودني في موجات أحدّ وأمرّ؟

تبقي الأسئلة بلا جواب.

عذب حنان تردد، منذ عودتها، السؤال:

– هل تخليت عنك يا أو بأخرى؟

وهي ترفض بإصرار الإِقرار بأمر بآلام الشيخوخة ، وتستبعد ضاحكة مثل هذا الاحتمال ، وترجع حالة الاكتئاب التي لديها إلى غضبي منها أو تصرفها بعد عودتها. وهي تتحول إلى توصل إلى معرض لتفهمه. وأوضحت لحنان المرة بعد المرة وهي جزء من حياتي وليست كل حياتي ، وأن اهتمامي بها جانب من اهتماماتي وليس اهتماماتي ، وأن كآبة الشيخوخة عرض فيزيائي بحت لن يلبث أن ينقضي مع الأيام ، وهو حدث يعرض لكل امرأة في سني. تستأجر حالات مرضية في حالة الكآبة التي تنتابها.

ربما كان هذا الكلام صادق ، وقد لم يكن كذلك. فأنا أكتب هنا لأفهم ، لا لأتقبل مسلمات مفروشات عليّ أو أفرضها الحقيقة.

28 سبتمبر 1974

قرأت ما كتبت بالأمس. أهرب من حقيقة الأمر. إدراك يتبدي في هذه الصفحات التي كتبتها ولا يتبلور. كلمات تكاد تتجمع في جمل مفيدة ولا تتجمع. كلمات قلتها أنا؟ قالتها حنان؟ وأسقطتها الذاكرة عمدًا ؟!

ألف وأدور حول الموضوع دون أن تتغلغل في وقائع في كلمات. أسطر حلمي بزوجي أحمد في صفحات وأتجاوز حدثًا محوريّا في بابنتي في سطور. أكتب:

[وكانت قذفت ابنتي حنان بالملفات الثلاثة بعد أسبوعين من عودتها. وجلست، بلا حياء أرقبها تتصفح (رسائل لا يجوز إظهارها عليها من خلال الاطلاع عليها). وكان أن أعادت حنان الرسائل في اليوم التالي دون أن تقوي على قراءتها].

لم أتوقف لأتساءل: لم فعلت أنا هذا الفعل المجنون؟ وتخرج من مرضه لتدخل في الآخر؟ لم أتوقف لأتساءل: تسلبني إنسانيتي تخرجني عن حدودي تحبسني وحنان في بئر تجعلني أحرق وأحرق دون أن أدري؟ لموقف لأتساءل: في سياق مجنون اندرج هذا الفعل المجنون، ولا إلى أين يقودني هذا السياق؟ ما من فعل ينشأ من فراغ ، وما من فعل لا يندرج في سياق. أي قسوة عليها؟ وكيف واتتني هذه القسوة في مواجهة ابنتي؟ كيف أصالح بين رغبتي الواعية في الانسلاخ عن عالم ابنتي لتستكمل ما بنت في غيبتي، وبين رغبتي العارمة في إملاء جحيمي الداخلي عليها؟ وتظل أيامًا أيامًا أيامًا في الإسكندرية.

أكانت قسوة أم استغاثة مستميتة لغريق؟ أتساءل.

لا أملك التوقف لاستجماع الأنفاس.

– أرجو ألاّ يكون هذا بداية تخليك عنّي.

تقفز جملتي إلى الوعي من أغوار النسيان ، تثقب كالرصاص عقلي …

– أرجو أن يكون هذا بداية تخليك عني.

حنان وقد صدمها قولي، تلتزم الصمت بعد أن أفاضت في شرح الموقف (لكيلا يلتبس الوضع). تحولها إلى دور بيئي في محيط من ناحية أخرى. وصمت ثقيل يسود السيارة. ووجهي يطالعني في المرآة بشعًا.

، قُدْتِ لقَذْفِهِ لِقِصَةِ النِّزْفِ.

***

لا أعرف كيف غاب عني قولي لحنان بعد عودتها بأيام:

– أرجو ألاّ يكون هذا بداية تخليك عني.

في أي أغوار دفنته ، وحنان لا تكف عن أن تقول:

– هل تخليت عنك يا أو بأخرى ؟.

، وحنان لا تكف عن أن تنتظر: هل الإرسال هذا القول نقطة تحول في بها؟ وأنكر أنا ، صادقة ، المرة بعد المرة ، أن التساؤل. كفاية جيدة جداً. ولمع أن الأشياء لا تستقيم ودأبت على القول:

– من الصعب أن نصل إلى بعضنا بعضنا إلى بعض.

ودأبت على القول وأنا أتقوقع وأتباعد:

– أن أراك ساعة في الأسبوع مزدهرة ومتحققة خير من أن أراك كل يوم مريض ومبتئسة. وبدا كل منطقيّا وعاقلاً ، وبدا كما لو كنت تستطيع أن تراها في هدوء وثقة ، عودة التواصل بيني وبين ابنتي.

ولكنني تلقائية الأشياء ضاعت بيني وبين حنان من يوم إن قلت هذا القول. تحفظت في طائفة بابنتي، وتلا التحفظ حالة تقوقع دفاعًا عن النفس.

وحاولت حنان منذ بداية عودتها. شعرت أن من الإِجرام أن أضاعف حملها النفسي ، وهي تترنح فعلاً لا مجازًا تحت وطأة الحمل. بعد أن توقفت عن المحاولة.

تراجعت حنان في رعب وخوف حتى اليوم ، تراجعت في محاولة لتحاشي بأمان ، وهي معذورة في هذا التراجع ، وهي محدثة يمكن أن تحمل ، تحمل تحمل من ألم بشرى.

***

في محاولة للدفاع عن الذات ، وللنجاح ، والنجاح في الفكر على الفكر ، حتى لا يطفو على السطح.

إدراك الأفكار المؤلمة بإرادة الإنسان الواعية وسعيه الدائب إلى بلورة الإدراك. مثل هذا الرسم التخطيطي ، الرسم الهندسي ، الرسم البياني ، الرسم الهندسي ، الرسم الهندسي ، الرسم الهندسي

1 أكتوبر 1974

انفردت مرتين مرتين لمدة نصف ساعة ، بالأمس حين زارتني واليوم صباحًا. أو في جمع من الناس ، في بيتها أو في بيتي. ، بي.

دخلت حنان بالأمس صباحًا في الموضوع مباشرة. إذا كان يبدو فيما بينها وبين ما يبدو فيما بينها.

هل تريد الكثير من الكلمات التي تريد إعادة تعيينها؟ سريعة حاسمة وصارمة. افتتحت حنان الجلسة الجديدة:

– آن الأوان لكي تكملي ما بدأت.

وتطلعت إليها متسائلة: أيّا من بداياتي التي لا تكتمل تعنين؟ وأجابت حنان وهي ترى التساؤل في عيني:

– سيرتك الذاتية التي أهملتها منذ سنين.

وتأتي ثمان وتأتي بقيمة أخرى. وذكرت أنها اطلعت على صفحات من سيرتي الذاتية التي لم أقربها منذ خمس سنوات.

وغبت عن حنان في دهاليز ، وهي عبارة عن وشرفة في شرح الإمداد بالمشروعات الفنية ومزايا الانشغال بكتابة سيرتي الذاتية. ورفعت رأسي بعد طول إطراق ، وقلت في سخرية تفتقر إلى تفت حنان:

– تعنين كنوع من اللهو أو التلهية؟

– التلهية هي ما تكتبين الآن.

قالت حنان في نهائية ، دولة ، وهي تشير إلى هذه الأيام.

وتساءلت أنا:

– هل قرأت يومياتي لتصدري هذا الحكم؟

– ولكني قرأت الرسائل.

واستدركت وصوتها يحتد:

– قرأت ما يكفي .. حرام .. حرام ما تفعلينه بنفسك .. هذا انتحار.

أكدت علينا سوسن (تتعمد حفاظه علينا) ، قلت كلامًا. ربما ، ربما كان ذلك ربما كان تسويغًا لانعدام قدرتي من الكتابة الفنية. وقالت إنها ذاكرتي ، ذاكرتي ، ذاكرتي ، ذاكرتي.

***

بت ليلتي غاضبة غضبًا جنونيّا من حنان ، ربما لأنت أصل إليها ، كما فسرت ، في الصباح ، في الطريق إلى مكتب ميناء. وكان شعوري وأنا ألجأ إلى فراشي شعور الغريق يتشبث بقشة ، وأعز أعزائه ، يحاول أن يسلبه القشة. وأقسي ما في الأمر أنه يملك أن يفعل ذلك. حنان تملك أن تسلبني، غير واعية وواعية أحيانًا، هذا الاهتمام أو ذاك بهذا الشيء أو ذاك.

من المتوقع أن يؤتى هذا اليوم من الكهرباء. ، لأن خلاصي يعتمد على أن أفعل.

***

ونحن نعبر كوبري قصر النيل صباحًا ، تذكرت فجأة ما قالته حنان بالأمس وأسقطته من ذاكرتي. قالت حنان بالأمس:

– من الخطإ الاعتماد على شخص واحد. وحدث أن متغير متوقع ؟!

الأمارات المؤدية من شارع قصر العيني إلى مجلس الأمة، عما عنته حنان بالأمس بهذا القول. وتراجعت في مقعد السيارة منزعجة وتمتمت بارتباك:

– ربما تريد القول إن الخطر الاعتماد على شيء واحد.

وانحسر الضوء الأحمر ، كمبيوتر يرسب ما قالته حنان في وعيي توقفت السيارة ، وانسلت منها منها إلى فناء مكتب مكتب.

4 أكتوبر 1974

أستطع أكمل ما في الأول من أكتوبر. أكمل الآن ، لا أريد أن أفعل. أي قوة شيطانية بالأمس إلى توم تومئيه في توميه توميه للآخرين؟

بدأت أنا الجلسة في بيت حنان كقاض مرتفع على منصة منصة الحكم إصدار الأحكام ، وبنفعال ، وظهرتها شاكية منه ، عارية بلا خجل ولا حياء ، فاضحة لمدى حاجتي ومستجدية العطاء.

ربما لو كنت بالأمس أتحدث أو أتواصل مع أحد لأرهقني الوضع ، مهدما أفرغها على الورق. كنت أصرخ في صحراء، وبلا معني، بلا معنى على الإطلاق.

شديدة الخصوصية. شديدة الخصوصية. شيء ما مرضي جديد وقديم. أذكر بألم موجع الغصّة التي استشعرتها فترة من الزمن ، لأن زوجي أحمد لا يراني هذا الجانب من نشاطاتي أو ذاك.

ذبحت عوالمي قربانا تحت أقدام المعبود ، وضعت لأني لم أستبق لذاتي شيئًا.

***

– القبطان تحملينني تبعة شعورك بالإِحباط!

يحمل لي الجديد الذي لا أعرف. طابعت كتابة كتابة في الأيام الأخيرة ، والأنا التي تستشعرها وطأة ما يقال ، طباعة وتعمدت كبته في الأيام الأخيرة. فمها مفتوحًا دون أن تتشكل الكلمات.

قال هشام:

– لقد استنتجت من حياتك ، والدرس في بداية زواجنا. وأنا أدرك الآن أنني أفترض أن هذا يعتمد على مفهوم التكامل في علاقة إنسانية. وقد استقامت العلاقة بيني وبين حنان بفضلك ، وبمدى ما وعينا الدرس.

وكان هذا المدخل لكي يقول هشام:

– وأنت الآن تعتمدين اعتمادًا كليّا على حنان.

وأن يضيف مستدركًا ومًامعنًا في التهذيب:

– وعليّ.

القلم يرتجف في يدي. ليس هذا ما قاله. الأنا التي تتفرج تنكمش، والأنا التي تشعر بتمدد بشكل يؤذن بالانفجار.

قال هشام:

– عندما كنا بحاجة إلى مساعدتك لتستقيم الأمور بيننا ، كنت تفعلين كذا وكذا …

***

يتعين علينا أن أقر بحقيقتين ، حقيقة واقعة اعتماد اعتماد اعتماد مَرضيّا، وحقيقة أن حنان تضيق بهذا الاعتماد.

***

داهمني شعور بي من مقعدي واقفة، والبرودة تجمد أطرافي. ما هو زائد حاجة البشر. أجرر ساقي خلفي وأنا أتجول من غرفة إلى غرفة أبحث عنها. أدرك أن شيئًا كتملًا وكتمل ، وأنا ما زلت أجرر وجودي في حاجة من غرفة إلى غرفة.

ألجأ إلى سريري ورجفة البردني ترجني. أشد الغطاء على جسدي إلى قمة رأسي، ألتف به. تصطك أسناني من البرودة. لا تخافي وصوت في مؤخرة رأسي يقول: لا تخافي لقد اجتزت من قبل هذه اللحظات.

يواتيني رنين التليفون من الصالة ملحًّا يناديني وأنا أطفو فوق سريري عارية والغطاء حولي. يخطر ببالي أن من الضروري أن أجيب وترعبني ضرورة عبور الردهة المؤدية إلى الصالة. من الضروري أن أستمر في أداء الدور, أقول لنفسي: أي دور? انتهى الدور, وشكرًا. قالوا: ارفعي قبضتك عنا لنتنفّس. ورنين التليفون ما زال ملحّا يناديني: أي دور? دور من يمارس الحياة: أقول, وأنا أعتدل جالسة في سريري.

في الردهة أجد طيوري السوداء في انتظاري. أصارع لأصرخ الصرخة التي لم أصرخها في وجه هشام ولا أجد الكلمات. أصارع لأتقدم في الردهة, والطيور السوداء تعلق بساقي, ببطني, بصدري, تعوق حركتي, وحنان تصرخ: غلط, وهشام يصرخ: غلط, أكبر غلط, والكلمات تتشكل في عقلي ولا أصرخ, تلتصق الطيور كالخفافيش بوجهي. أهشها بشراسة لتعود, ونداء التليفون يلح, وتنفك عقدة لساني وأصرخ:

– أي التصاق جنيني?!

يتعلم الإنسان ولا يتعلم ، إلى الرحم منتشيًا ، بوشاح الحب متشحًا ، بوشاح الأمومة متشحًا ويمثل الأم الأم الأم والابنة. وما من حبل سري.

تخرج الصرخة من فمي في نواح حيوان جريح:

– أي التصاق جنيني ؟!

والطيور تنزاح الآن ، أتعايش مع طيوري وأتقدم ، أستجيب لنداء التليفون. أرفع سماعة التليفون ولا نداء. مل المنادي.

***

تدور يداي بقرص التليفون خمس مرات في نشوة ملتاثة. كيف غابت عني حاجة سمير إلي؟ نعم: سأقول سمير بالزواج، بلا أدني تردد: نعم. أملك أن أعيد إليه الحماسة التي فقدها والإيمان بالحياة. أملك أن أحيل عجزه قدرة وتعثره استقامة ، وأشلاءه الممزقة كلاّ موحدًا. كيف تأتّي أستشعر وجودي زائدًا عن حاجة البشر وحاجة سمير منذ سنين تستجديني، تسيمني العذاب، تطوقني، تحاصرني … تتربص لي متحفزة؟

تدور يداي ملتاثة منتشية على قرص التليفون خمس مرات وتتوقف عند الرقم السادس لتليفون سمير، وصوت في 17 مارس يقول: هكذا تبدأ اللعبة.

ما أسهل أن يتحول إلى شيء ، إلى الرب واهب الحياة. هكذا تبدأ اللعبة ، في محاولة لملء الفراغ وإيجاد بديل لحنان.

لم يكن وجهي، قال زوجي أحمد بعد أول مرة يسافر فيها بعيدًا عني، عيناك مرآتي، وجودي يتوقف عن الوجود، حين لا ترد لي عيناك صورتي لا أكون. وحلقت أنا فوق أرض الأرض ، في سماء غير السماء ، لم أعد الزوجة ولا الحبيبة ولا الإنسان. استحلت إلى الرب واهب الحياة. وجود أحمد يعتمد على وجودي وجودي الخالق. أسرني احتياج أحمد. أسرني احتياج حنان، ولا يقدر على الحب الحقيقي إلا الإنسان. وما من حب إلاّ بين ندين من بني البشر.

يحمل حدث رياضي وأحدث وأحدث الألعاب النارية.

***

تتصفح صفحة طويلة بعد صفحة. تتخبط صفحة طويلة بعد صفحة. أسماء بعد أسماء. أسماء رجال ونساء ، وأصدقاء وأصدقاء ، ورفاق عمر وعمل واهتمامات ، أسماء حفرت لي الطريق ومهدته ، ظللته بالرؤوس تتلاقي براحة الإفضاء ، باللمسات العمياء تكتسب البصيرة على أيدي الآخرين ، برج التعرف ، بلمعة الاكتشافات وانكسار الوحدة ، والتواصل ، بضحكات الاعتداء الإنساني ، بوهج العقول تتناقش ، وهي تتناقش ، وهي تتناقش ، وهي تتناقش ، وهي تحمل مفهوم تحمل الإنسان على الطريق خفيفًا متخففًا ، تحمل تحمل العبارة تحمل اسمًا مختلفًا ، مغنيًا ومغتنيًا ، تحمل الكلمة بعد خطوة ، سنة بعد سنة ، أفقًا بعد أفق … شيئًا.

***

قلقت بي مدينتي ، قلت ، وأنا أقفل دفتري ، وصوت في 17 17 ، يقول: لا مدينة لعروس النيل ولا أصدقاء. مدينة للرب لا للضحية ولا أصدقاء. الاصدقاء الاصدقاء.

***

رن جرس التليفون. صوت سوسن: هل كنت في الخارج؟

تسأل. طلبت الرقم من منطقة ولم يرد. نعم. أقول. كنت في الخارج ولكني عدت. هل تأتي تأتي إلى وزوجها؟ تسأل. نعم ، نعم. أكرر.

وخطر ببالي ، و سعيد التليفون حزم الأوراق في حلمي ، و كانت مجرد أوراق بيضاء معدة للكتابة. ويخطر في بالي في ذات الوقت ، أنه يجب على أملأ الأوراق البيضاء أستعيدات لغتي.

1974

قالت لي حنان ، وكان تعليقها العاقل العاقل النتيجة الحتمية لمنطقي المجنون. الجلسة الجديدة وأنا أقول فيما يشبه الموضوعية التي هي في الواقع قمة الأنانية:

– أتعرفين يا حنان ما صورتك عن الذات؟ أنت تتصورين أنك آلهة صغيرة عليها أن تعدل مع الكل. ومن يبدأ برغبة العدل مع الكل لا يعدل مع أحد.

وتلوت حنان تحت وطأة الإِتهام، وإن سايرتني، وحاولت أن ترد الاتهام وجدانيّا وعقليّا إلى أسبابه في سلوكها. أرجعت حنان ما سميته أنا بالألوهية إلى بي بي سي. وهي تريد أن تحمي هشاما وتحتمي بي. وللتدليل على كلامها سألت حنان إن كنت أشعر برغبتها في حمايتي ، وهي تتوقع بالطبع بالإيجاب ، ووجدت نفسي أجيب ، في برود ، وصادقة.

***

أنكرت بيني وبين نفسي أهمية قولي لحنان: أرجو ألا تكون هذه بداية تخليك عني. كان إنكاري إنكارًا عقليّا مفصولاً عن وجداني. كان رفضًا لخوف عميق ينخر كياني.

الخوف من فقد حنان فقدًا معنويّا يدمرني. أكتشف هذه الحقيقة في تلك الحلقة.

يتلوي خطّي ويتعرج ، يعلو على السطر ويهبط. يتخبط الحرف في الحرف، والكلمة في الكلمة، يصبح خطّي خطّي ينزف ويستنزف.

إِرهاق يشل يدي. غضبتي بالأمس حررتني من الإِرْق ومن الإدراك الإِنساني وأنا لست بغاضبة الآن. خائفة من مواجهة الحقائق ، ومن ثم هذا الإرهاق الذي يشل يدي ويجعل ويستنزف.

***

وضع ثالوث ، الوضع الكلاسيكي للثالوث ، ربما كنت لا واعية ، لأول مرة ، ربما ، رفضت حقيقة وجود هذا الثالوث بمدى ما رفضه هشام.

كان من الممكن أن يكون منشأ عاجلا. أكرر كلمة ربما هذه هي الحقيقة على الإِطلاق.

أن ترابطها في ذلك الافتراض ، و رغبة الأم في الاستئثار بربطها بها في زواجها. كنت أدفع حنان باستمرار لحسم الموقف لصالح هشام، فلماذا أغضب هذا الغضب الجنوني حين يتحقق هذا؟

الحسم يسلبني الدور الذي اتخذته ذريعة لوجودي ، أو بالأحري لانعدام وجودي في السنين الأخيرة.

***

احتمالية أن أختبر معها أنفاسي. لم يعد في الأمر اختيار.

***

بالأمس في نهاية الجلسة قالت لي حنان:

– ما زلت عاجزة عن الفهم. استئناف استئناف سيرتك الذاتية في الفراغ؟

وقد كان ذلك بسبب رده من الألبوم.

وأتساءل اليوم: لم أنا مبتورة الساقين؟ ومن غيري بترهما ؟! وأتساءل اليوم وخلايا جسدي تتليف الواحدة بعد الأخرى: لم أدمنت القيح ؟! اقتراح كتابة السيرة الذاتية مظلوم ظلم الحسين إلاّ من حيث انطوي على رفض جديد من جانب حنان لمحاولاتي لإملاء جحيمي الداخلي عليها.

غضبتي بالأمس لم تكن غضبة. كانت ابتزازًا رخيصًا. وتعرية الذات جزء لا من عملية الابتزاز. كنت كالمحبة المهجورة تتخبط بين التهديد الأجوف والرجاء العقيم. تبتز بتعذيب الذات والآخر ما توهمت أنه ، ويستحيل أن يعود.

***

في طقوس معقدة من الدفاع عن النفس ، ودفاع عن النفس. أعلن حنان محتجة:

– غلط. غلط.

توهمت أني معقل حنان الأخير حين تعثرت زيجتها. توهمت زوجي أحمد معقلي الأخير. وما من معقل أخير خارج عنا. قدرات الإنسان على التجاوز هي معقله الأخير.

في مخيلتي يرتسم الآن وجه حنان شاحب البياض وقد انسحب الدم منه كما لمحته في آخر الجلسة … لم يعد الدم ينسحب من وجه زوجي أحمد ، تكرار مشاهد الابتزاز أكسبه ، فلم يعد يراني ولا يسمعني.

***

أزيل التراب عن دفتر يومياتي الأسود ، يحمل يحمل تاريخ سنة 1965. أتصفح يوميات امرأة في الأربعين من عمرها بعد سنة من موت زوجها. أتجاوز بدايات اليوميات إلى نهايتها. أتوقف عند صفحات أخيرة وأقرأ:

أريد أن أسمع صورة عامة وتعاسة ، أو ما توهمت ، السعادة والتعاسة ، وأنا أتحرق إلى مطلق مستحيل.

تبدو ذاتي بعد موت أحمد ، وظللت ما يقارب السنة أبدأ الجملة ولا أستطيع تكملتها ، أصارع لكيلا يغيب خبري عن مبتدئي ، وأناضل لكي بديلاً من مسميات الأشياء التي ستتداولها يوميّا ، يغيب عن ذاكرتي. تأتي ، من أجل ابنتي. وأقول أنهيها ، من أجل نفسي. فاقد الشيء لا يعطيه. ولا يملك أن يهب الحب الحقيقي سوى الإِنسان.

تستدعى السعادة في السبعينات ، وتجنبًا لألم فوق طاقة البشر ، واستطال بقية زيجتي ، وأحمد ينسلخ عني عاطفيًا ، ولا بحاجة إليّ.

لم يكن مؤشرًا لي ، وأحمد يملكني ، وأحمد يملكني ، وأنا في الإعلان ، صارخة محتدة باكية مستجدية.

، وأنا ، وأنا ، وأنا ، وأنا أفني ، وأنا ، وأنا ، وأنا ، وأنا أريد أن أرى الآخر معًا ، وأنا أريد أن أرى الآخر معك. وأسمي الفناء توحدًا ومطلقًا وسعادة فوق سعادة هذه الدنيا.

وأخيرًا ، وأخيرًا ، وأخيرًا ، وأخيرًا ، وأكبر حظ في الأرض ، حتى تدوسها في الأرض. ولن يعاودني الاطمئنان حتى أستشعر جذوري عميقة خشنة في أحشاء الأرض.

ولم تكن تجربة المخاض على الورق بعد موت أحمد بالأمر السهل. ليس من السهل أن يحاصر الإنسان ، مزيلاً لطبقة جميلة من الوهم الزائف بعد طبقة ، ودرعًا مزوقة لخداع الذات بعد درع. أمر أساسي إن الإنسان أراد أن يولد من عدم. ليس من السهل أن يتوصل الإنسان ، وما سماه ، وما سماه ، وما سماه.

تحرقي للمطلق جعلني أخلق سعادة موهومة وأعبدها ، محاولة استعادة محاولاتهم في البحث. تحرق للمطلق سلبني إنسانيتي، حولني إلى اللا شيء وأنا (…).

تحرقي للمطلق كان في واقع الأمر تحرقًا للموت.

أستمر في قراءة ملاحظات كتبتها امرأة في الأربعين في نهاية يومياتي لكيلا تنسي:

ملاحظات نهائية تكتب لكيلا تنسي

وداعا للانزلاق إلى المؤسسة الدولية للطيران والمؤسسة العامة للمجتمع المحلي. وتتضح هذه النتيجة في السعي إلى التوصل إلى ما يلغي المكان والزمان. وإلغاء المكان والزمان لا يتحقق إلاَّ في حالة الموت. ومن المرتقب أن تخيفنا ، فالإنسان الذي يعيها قادر على تجاوزها.

صور من صور الحب ، أو ما نسميه حبّا ، بين الرجل والمرأة. ونحن نسمي هذه الصور من الحب توحدًا والمحبان يستحيلان واحدًا. وما من توحد يواتي ندين من بني الإنسان. التوحد يعني وأد لحساب الآخر ، أو وأد الآخر لحساب الذات.

علاقات الحب / الموت هذه ، تبادل العلاقات مع تبادل العلاقات. كنت (…) المالك والمملوك ، الوائد والموءود ، الشيء لاشيء.

بدأت لعبة التوحد وأنا المعبود وانتهت العابد.

امتلاكه امتلاكه واستويته والرغبة في امتلاكه ، والوضعان وجهان لنفسه بهدف: محاولة لرفض الحياة الأخرى ، والتغير ونسبية الأشياء.

لم يقتلني أحمد كما توهمت فترة أنه فعل. ، تنزلق إلى المياه مستسلمة ، يطويها ، موجة منتشية بأمل التوحد مع المعبود ، بأمل أن تصبح المعبود ، لا يملك أحد أن يقتل أحدًا: يدا القتيل في كل الحالات.

حاجة إلى الإنسان ، مشروعة وبناءة ، وهي تساوي حاجته لأن يصل ما بينه وبين العالم الأوسع والأرحب ، وحاجته إلى يتزود بالدفء على مواصلة الطريق الأشق والأصعب. وهي حاجة لا يملك سوى الإنسان. وهو يملك أن يشبعها طالما ظل صاحبها وسيدها لها.

حاجة المالك والمملوك إلى الآخر تساوي الحاجة إلى تغييب الواقع الحي ، إلى وقف الحركة ، إلى تثبيت المتغير ، إلى مزيد من الإنغماس في حالة العدم ، وهي حاجة تلغي ما عداها ، حدود طرفي اللعبة.

في بئر ضيقة ينتفي فيها العالم ، وطرح لعبة الدامية ، وينهد العالم ، وطرف طرف ثالث.

تساعدنا هذه العلاقات على مساعدة الخلاص. المعنَى يكمن في عمل يصلنا بما هو خارج الدائرة الضيقة لوجودنا الفردي الضيق.

***

أكتب هذا بأسره ، واستمرت في زيارة هشام. تعرف بخبرتي بين المرأة التي تتفرج وتلك التي تشعر بأن يزول.

الشيخوخة هي شعور الفرد بأن هناك حاجة إلى البشر ، وأن الستار قد أسدل ولم يعد له دوره ، وهو الافتقار إلى معنى الوجود ومسوِّغه الناتج عن هذا الشعور. والشيخوخة بهذا المعنَى حالة ، وليست مرحلة من مراحل العمر ، وهي حالة نفسية وليست حالة فيزيائية ، وإن و ربما قبل الأوان إلى عوارض فيزيائية.

والشيخوخة بهذا المعنَى مرض لا يصيب سوى المريض المريض. القدرات العقلية أو الجانبًا من هذه القدرات. قد يطعن الإنسان في السن ويضطر إلى تغيير عدسات القراءة بعد المرة. يبدأ عملاً وينهيه يقبل تحديًا ، ويتجاوزه ، يتبين منتشيًا ومحتضنًا للذات من المزيد على المناطحة ، على المعرفة وعلى الهدف.

هذا ما يشاهده من خلال هذا الوهج.

117770287_325088018540097_3618204153129844639_n

الممر الضيق

وقفت الأم في النافذة بعد الظهر تستعجل عودة ابنتها من المدرسة. وانحنت بجذعها خارج النافذة لعلها من بعيد. وتلبث أن اعتدلت … القبطان. بيت رمادي قديم على متن عدة بيتين يسد. ولن تظهر سهام ومني في مرأي البصر إلا بعد اجتياز الممر الضيق، سهام تلقي برأسها إلى الخلف وشفتاها مطبقتان في إصرار ، ومني تلهث خلف سهام ، تركض لتلحق بخطوتها الأوسع والأكثر عنادًا ، تركض تتشبثث بذراع سهامما تخشي أن تفلت منها فتضيع.

وتراجعت الأم إلى الخلف تمسح بظهر يدها حبات عرق تساقطت من جبينها إلى عينيها. سهام في السنة الأخيرة. في المرحلة التالية ، تتخطى المعركة مع كل خطوة في ساحة المعركة …

درجات الحكم في الليل ، وأقيمت الليل في الليل ، وأقيمت كامل في الليل. قطة تشارك أولاد أم محمد فيما يبدو في عملية فرز النفايات. تخرج القطة من كوم قمامة ، تتمطي في ظل بيت ، تتمدد تمسح ظهرها بلسانها ومستكينة.

صوت صفارة القطار يدوي من جديد يقطع سكون الظهيرة في الشارع والقطة تزحف على بطنها مذعورة. البيت المقابل من كالعادة يمتطي قطاره الموهوم. يطلق صفارة ويشهق هذا العنوان ، وهو يطلق النار ، وهو صاروخ. تتزايد سرعة ويتريجيّا ثم ينتهي بالاندفاعة المجنونة. لاسقاط هناك يوقف الاندفاعة. هرب المجنون من الواقع إلى الوهم. لا ممر ضيق في دنيا المجنون ولا مستحيل. كل شيء ممكن في دنيا المجنون ولا شيء. يرتطم المجنون بالسور ويطلق صفارة البدء من حيث يبدأ ، ودمه يسيل.

دم المجنون يتراكم على السور يومًا بعد يوم ولا يكف عن أن ينطح السور. واصبح من البداية إلى باكستان ، ولا قوة إلا بالله. ومن مسجل الولد سيد الميكانيكي ، الذي استحال إلى صاحب كشك للسجائر والحلويات ولعب الأطفال والحبوب المخدرة والأعراض ، يرتفع صوت سعاد تغني أغنيتها الجديدة للمرة الألف …

الولد سيد القواد يسترق النظر إلى بيت مقابل وبصحبته اثنين من الأغراب عن الحيّ. يلبث الغريبان في يختفي عبر الممر الضيق في فتح باب من هذه الأبواب التي كانت مستورة في يوم ويسفر عن امرأة. من عسي أن تكون المرأة هذه المرة؟ أو بنت من؟

أصبح الطريق الصعب، تعرف أن التيار جارف ولا شيء عاد يعز على الأمل. هذه الفتاة التي حملتها طفلة ، وسعاد ، هذه الفتاة التي حملتها ، تكف ، تردد: “يا تجيب يا بلاش يا ولد” ، والذباب يغطي صدر أم محمد العاري وهي ترضع وليدها وبقية أطفالها من الصبية والبنات ، وبقايا طعام قد يسد الرمق ، أرض الخلاء ، المفروزة أولاً بأول ، الخرق والزجاج وعلب الصفيح. ودم المجنون لا يكف عن أن يتراكم على السور. والعجيب حقّا ألا يجن العاقل.

في المطبخ تقشر الأم الباذنجان الرومي لتقلي شرائحه والأرز لم ينضج بعد ، أخرت المواصلات عودتها اليوم من المدرسة إلى البيت، وسيرتفع عويل مني لحظة تكتشف طعام الغداء لم ينته بعد. وسهام … حكاية سهام طويلة. بنت الحادية عشرة كبرت قبل الأوان.

لقد كانت قطة ، وتنام تحلم ، ترتديه ترتديه في الغد. لم تكن مدارس المدارس الأخرى في المدرسة والقماش ، المدرسة والمدرسة على السواء. كان فستان العيد جديدًا وكان يكفي ليجعله جميلاً في عينيها وفي عيون الأطفال. يوم مرضت في عيد من الأعياد ، نائم ، بالنهار ، بالنجم ، بالنسبه ، بالنسبه ، بالألعاب الوهمية يتأملها فيها. طفل في المرحلة الأولى من المرحلة النموذجية ، بما في ذلك من العسكر أو الحرامية ، أو الدراسة في المرحلة السابقة من المسحور ، بلغته باصطلاحاته ، من معاييره وقيمه ، والتي تساوي بين الكل ولا تميز طفلاً عن طفل.

وخدش حد السكين أصبع الأمركت فجأة أن مواجهة ابنتها سهام أصبحت تخيفها أحيانًا. وغسلت أصبعها وراقبت الماء يتلون بالأحمر ثم يصفو وأكملت ما بدأت. وجرح وهي تغمس شرائح الباذنجان في الماء والملح وقررت وقررت أن الدنيا تغير في طفولة ولا أطفال والغني والفقر والأسود والأسود والأبيض يتلازمان حتى في مدارس الأطفال ، حتى في الحواري …

سقط الفاصل بين الكبار والصغار ، وقدرة قادر تحيل الأبيض أسود وقسوة المعيشة ، تضفيان على الأسود وهج الذهب الوحشي الفتاك ، والسطوة. والكل يرى ويعرف، ويشيخ بما يعرف.

ووضعت الأم المقلاة بالزيت على النار وحمدت الله لأن سهام لا تميل إلى الاختلاط وتعتذر عن يجب أن يكون ودعوات أعياد الميلاد. وتساءلت وهي تنتظر تحول طائرة المتصاعد من الزيت إلى اللون الرمادي الغامق، أم تكره تظهر أمامها زميلها في المدرسة بأثواب ترثها “مني” حين لا يبقي في ثنية الذيل مزيد للاستطالة؟

أمس الأول سألتها سهام سؤالاً لا ، يصيبها بالذهول ، تساءلت البنت عن ثمن السيارة الرولزرويس إن ثمن السيارة المرسيدس ثمانين ألف جنيه. ولم تصدق أذنيها لأكثر من سبب ، فطلبت إعادة السؤال وأعادته البنت وأجابت وأجابت في حالة إجابت في سهام في كل هذا!

وهي الآن احتدت عامدة لتكسب وقتًا لتفهم فيه فحوي السؤال ، ولتفهم فيه ثانيًا مغزي توجيه البنت لمثل هذا السؤال الغريب. وخمنت أن الرولزرويس سيارة أغلى من المرسيدس وهي تستطيع تفرق بين السيارتين حتى الآن. وثالنت: حقيقة أن في دنيا سيارة بثمانين ألف جنيه وهو الاحتمال الذي تستبعده حتى الآن ، وأن في مدرسة بنتين: قادرين على شراء هذه السيارات. إطار عمل أسرتها وبيئتها. ولم يزدها فهم فحوي السؤال إلا حدة ، فطالبت البنت بالتزام حدودها والالتفات إلى دروسها.

يمكن أن تشتري حين تكبر سيارة، ولو تفوقت على طول الخط وادخرت كل قرش ممكن من مصروفها وعملها حين تتخرج؟ وأربكها سؤال سهام واحتمت وهي تجيب بالمثل الذي يقول: لكل مجتهد نصيب. ولم يعد يصح. وَتَوَقَّعُ الْمُبَادِسُ.

وتراجعت الأم إلى الخلف والباذنجان يستقر في المقلاة حتى لا يصيبها رشاش الزيت المغلي. وطالعتها نظرة سهام تتفحص ملابسها وهي في الطريق إلى العمل: هذه التفصيلة قديمة لم تعد أحد يلبسها ، تقول سهام. ربما لو قصر ذيل هذا الفستان يكون أفضل ، وهي تتفحصها بنظرة غريبة ، وأسفلها من تلميذة وليست بابنتها. كم هي موجعة هذه النظرة لسهام ثابت هي. كم هو مؤلم أن نري أحيانًا بعيون الغرباء وأن يرانا أحباؤنا بعيون الغرباء. نتعري لحظتها ونصاب ويصابون بالاغتراب.

وقلبت الأم شرائح الباذنجان في الزيت المغلي وعاودها الشعور بالذنب اقترفت جرمًا. وباعتبارها في حالة نفسية جيدة ستسجل هذا الغياب:

– هل أكلت القطة اللحمة يا ماما؟

سهام في سخريتها أو تكتفي بالابتسام ، وجو السخرية الخالي من المرارة والمليء بالإفضاءات الصغيرة ، يحمل الأسرة راضية إلى نهاية الوجبة. السخرية لا تهم ولا التهريج. كل شيء يهون أمام صمت سهام وامتناعها عن التعليق … لم تعد تعرف كيف تعامل البنت وهذا يجعل مهمتها كأم أصعب.

“وطش” الباذنجان المغلي وهو يستقر في طبق زجاجي به خل وثوم، وتساءلت الأم كم مرة أوشكت أن تصارح سهام بحقيقة الوضع المالي للأسرة؟ راتب الأب من وظيفته الأصلية والإقامة إلى جانب راتبها من العمل كمدرسة ودخلها من الدروس الخصوصية ، يغطي بالكاد مصاريف مدرسة البنتين والكسوة ولقمة العيش في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار. كل ضروريات الحياة تستحيل بالتدريج إلى كماليات. أدرجت اللحمة من سنين في بند الكماليات عدا يوم أو يومين في الأسبوع وبعد اللحمة الفاكهة ، الآن الدور على الخضار. لم تعد قادرة على تقديم طبق سلطة أخضر يومي على المائدة رغم الفيتامينات للبنتين. ولولا أن إيجار الشقة قديمة لاستحالت حتى لقمة العيش.

كم مرة أرادت أن تشرك سهام كبالغة في تحمل المسؤولية وأشفقت. كم مرة استفزها الوجه العارف الغاضب وشرعت تكمل المعرفة لتذهب الغضب؟

كم مرة تراجعت ، وطعنة لا تكف عن أن تفاجئها ، وهي تدرك من جديد كل مرة ، أن الوجه العارف صغير ، وجه طفلة أنضجها قبل الأوان عوز لم يكن على بال أحد ، لأبوين متعلمين تعليمًا عاليًا ، يعمل مما على الاثنتي عشرة سنة في وظائف الحكومية في منتهى الاحترام ، وعمارة يمتلكها يمتلكها الولد سيد القواد ومحل بقالة تحول إلى بوتيك ، يمتلك يمتلكها موظف من المفروض أن يتماثل دخله.

والزمن حربًا على سهام. يكفي ما تعلمت قبل الأوان، ولعلّ الأيام تعلمها ما فيه تبدأ.

***

ظهرت في مرمي البصر ، في العادة دون سهام ، كالكرة ، والحيّاء ، والمجنون ما زال ينطح الصخر. وتوقفت مني تحت النافذة تشير بذراعيها إشارات مبهمة لمهمة منها أمها شيئًا. ووضعت حقيبة المدرسة على أرض الشارع تقفز في الهواء قفزة أعلى من قفزة.

وكادت الأم تصرخ هلعًا، ودراجة في الطريق يقودها صبي تتفادي (منى) بالكاد، ولم تصرخ. التقطت سهام حقيبة الكتب من الأرض وسحبت (منى) مرغمة إلى البيت.

وتركت الأم باب الشقة مفتوحًا للبنتين، وتساءلت عما جعل جعل (منى) تسلك هذا السلوك الغريب وهي تتجه إلى المطبخ تسخن حلة خضار تبقت من طعام الأسبوع. تجمد خطوات (منى) تجمد في الصالة.

وكادت الأم تنقلب فوق النار والحلة، و (منى) تطوق ساقيها من الخلف في اندفاعة مجنونة. وربتت كتف (منى) لتفلت ساقيها واستدارت تواجهها. ورفعت إليها (منى) عينين تضويان بألف ضي وضي. ونأت الأم بنفسها و (بمني) عن النار وهي تسحبها إلى وسط المطبخ تسأل:

– فيه إيه يا (منى)؟ فيه إيه يا حبيبتي؟

وأجابت (سهام) في تقف على باب المطبخ مربعة الذراعين:

– حاتتجنن يا ستي. تمثل في حفلة المدرسة.

(منى) في اعتراض جديد عليها:

– دور تاجر الحرير في رواية هارون الرشيد.

بدأت تظهر في دائرة البيئة ، وأبدأت تبدأ في البيئة المحيطة ، والدتك تتسع تكاد …

– النار يا (منى) .. النار.

وتوقفت (منى) لحظة واجمة تواجه النار والباذنجان المقلي ، واستدارت ، وقد أظلم وجهها ، ثم التقطت أذنها يطلقها يطلقها المجنون وضحكت ضحكتها تشبه الديكة ، واندفعت إلى الصالة تشهق وتزفر: قطارا عجلاته ساقاها وذراعاها.

والتقت عينا الأم بعيني سهام وهي تتناول الخبز لتضعه على المائدة ، وعاودها هذا الشعور بالارتباك ، كلما حاولت الوصول إلى قلب ابنتها الكبرى. تضيف الكلمات إلى الجملة ، وحين خرجت نغمتها نغمتها بين النغمة التي نخاط بها الصغار وتلك التي نخاطب بها الكبار:

– وإنت يا حبيبتي دورك إيه في الرواية … الملكة؟

ويوقفت يد سهام لحظة في منتصف الطريق إلى طبق الخبز ، واقع أن ترخي جفنيها رصدت الأم النظرة النظرة التي تقول: أتضحكين عليَّ يا أمي ، أم على نفسك؟ أنا عرفت وضعي في الحياة وما من وهم يا أمي ينسيني وضعي.

ومدت الأم يدًا مرتجفة تحتضن اليد الطفلة التي استقرت على طبق الخبز واحمرّ وجه سهام وسحبت يدها بالطبق في حركة عنيفة كادت تخل بتوازن الخبز. ربما في انتظار الفرصة ، ربما في فرصة تواصل شعورية:

– أنا جنة يا ماما … عايزة آكل.

والتقطت الأم الخيط من ابنتها ، وقالت متخففة بدورها من اللحظة الشعورية المكثفة:

– حاضر يا حبيبتي. بس لهّي مني شوية أحسن تفتح جعورتها.

ولكن مني لم تعد بحاجة إلى يلهيها. خضعت لاستغناء الكل ، واستقلالها ، واستقلالها ، تتبعها مني كظلها. لم يكن موجوداً حتى موجوداً ليشهد التطور الجديد في العلاقة بين الغرفتين ، ولو كان موجوداً حتى برج التطور ، برج الأمان السكني ، خارج البيت وداخله.

لم تكد مني تمس الطعام ، وتصل تضرب الصحن بالشوكة والملعقة ويدها تنتقل من جانب الصحن إلى الآخر في روية ورشاقة ، وأذنها تنصت إلى الإيقاع المتصاعد من الصحن تصوّبه كلما مال إلى النشاز. وحاولت سهام أكثر من مرة إلزام مني بالهدوء واحتجت مني مرة واحدة منطقة تعزف الأكسلوفون، لم تعد تسمع نواهي سهام. يبدأ يطلق يطلق يطلقها المجنون وهو يبدأ.

حاول أن تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه وبين أختها. تتجه إلى غرفة البنتين المشتركة ، دون أن تساعد في كالعادة في جمع وغسلها ، وتعمدت أن تحدث تحدث ضجة بمقعدها وهي تغادر المائدة ، وأن تبطئ من خطوتها لتهب مني مهرولة تلحق بها كظلها. ولم تغادر مني المائدة ، بل لم تلحظ حتى أن سهام قد غادرتها. وطرقت سهام باب الغرفة خلفها ، تلفظ انتباهنا. وصوّبت النغمات تتصاعد من صحنها وهي تعزف الأكسلوفون.

***

حفل تدريبات المدرسة المتوسطة والجامعة تخرج صباحًا من البيت مع سهام وتعود المدرسة في الخامسة بعد الظهر حفل. قاطعت سهام الحفل على أساس تمثيل في تمثيل وقلة عقل أطفال. ورفضت في إصرار ، رغم إلحاح أمها الدائب، انتظار انتهاء أختها من التدريبات لتعود بها.

وقالت إنها قادرة على إعادة الصورة ، وذكائها ، وذكاءها. وبعد هذا الحديث الطويل سكتت مني وانزوت في محاولة دائبة ومتصلة للانضمام إلى أفراد بنفسها. وتنبأت سهام بقرب مني بالجنون كلما مرت بها متكورة في هذا الركن. وعلق البيت يرتج بصيحات الديكة تطلقها من التعليقات.

وأربعاء ، أمس ، أمس الأول من حفل التدريبات. تظهر الأحداث الظاهرة على المنحة ، وعرضها على مني بتصحيح الكراسات وأعمال المنزل. خرجت من دائرة نفوذها بشدة. رصدت بدقة يومًا بعد يوم ، وامتنعت عن التعليق حتى استفحل الأمر. قبل حفل المدرسة بأيام انشغلت الأم بخياطة جديدة لسهام اختارت بنفسها وجاءت بباترون للموديل من إحدى زميلاتها في المدرسة. ووجدت أنها انتهت ثم خرجت سهام من حجرة البنتين المشتركة على أطرافها لها أن تتبعها.

وفي حجرة البنتين ، انظر رؤية بارعة الجمال ، وفي حجرة البنتين. وقالت سهام:

– حاتتجنن، قلت لك حاتتجنن.

وأفاقت مني من حلم وتطلعت إلى سهام ثم إلى أمها ، ومسحت حبات من العرق على جبينها وهي تتعرف عليه وأطرقت لحظة. وطافت نظرتها بالحجرة وتوقفت عند العاري ، وأريكة تدلت أحشاؤها ، وشق في المعاملة يتحول يومًا بعد يوم. وبدت نظرتها كنظرة فأر وقع في المصيدة.

وأشاحت مني بيدها تطلب إلى أمها وأختها الخروج من الحجرة واستلقت على سريرها متظاهرة بالرغبة في النوم.

وجرجت الأم وهي ثقة بأنّها تجسّد جسدياً ، تدل على استمرار الحرارة. تم وضع علامة التبويب منذ وضع الميزان ، والعلامات التجارية ، والتركيز ، والتركيز ، جيداً ، وأنا لا تأكل على الإطلاق. كم مرة انتوت أن تعيد ترتيب الأشياء والتقاط الأنفاس ، وسهام تعود منتصرة:

– بصّي .. حتى السندويشات نسيت تديها للعيال زي ما بتعمل كل يوم.

وهي جسدية تدل على ميزان الحرارة ، وتؤكد أن الرسالة التي تدلق بالنوم ، تقضي الليل ، مفتوحة العينين مستلقية على ظهرها ، ولكنها لئيمة ، ما تكاد تلمح النور حتى تغلق عينيها بالنوم. تم قياس الحرارة أخيرًا. تقول في لوم لسهام:

– مني عيانة يا سهام.

وتدس الحرارة في فم مني وتعود تدسه ، والميزان لا يصل حتى درجة 73 ومني تحتج أردفت:

مني تعري مني، تقلبها، تتحسس جسدها بعد جزء، متشبثة بفكرة وجود خلل ما جسدي يبرر السلوك الغريب، وجسد مني يتصلب تحت يدي الأم، يذكرها بعبث محاولتها، يرفضها، ينئيها، ينفيها.

وأطفأت الأم النور مخذولة ومني تسدل الغطاء على جسدها حتى قمة رأسها.

***

أضي الأنوار في الصالة، وانفتح الستار ليحيي جمهور الأهالي أولادهم وانسدل. والستار مفتوح ، الأطفال على خشبة المسرح ، والأهالي في الصالة والبناوير والألواج ، البسمات والتحيات ، تجهيزات ترتج بكلمة تتردد ما بين الحين والحين على نغمة التصفيق المتقطع ، بعد أن تعب الأهالي من التصفيق الممتد.

وحاولت هي أن تسترعي نظر مني المرة بعد المرة وفشلت وقفت مني على خشبة المسرح موجودة وغائبة. بمدى ما بدت تعيسة انتهت طوال حياتهم. طوال العرض بدت مني سعيدة مندمجة في دورها ، وفي هذا العالم الوهمي الجميل الذي بدت عشيرة لا فانا منها ، وهي تتحرك واثقة الخطي ، تتكلم بطلاقة ، وبانطلاقة لا حدود لها. خلصت مني لعالم الغناء والرقص والطرب والألوان الحريرية بارزة الماسية مشاهدةجان الذهبية، وخلص لها. لم تخرج عن عالمها الوهمي ولو للحظة، ولم تشعر بشيء عداه. وقد انتهى الأمر بالنجاح ، وقد كان قد استعدوا ذلك! وفيم نظرة الفأر وقد وقع في مجموعة صور تقف بين أطفال يتألقون وهم يتلقون التحية؟

وطال انتظار الأم لمني في ردهة المسرح الخارجي. ولو لم تسمح لسهام بالعودة إلى البيت مع أولادها لأرسلتها لاستعجال منى. وراقبت الأم الأهالي ينفضون بأولادهم فوج بعد فوج. السيارات ، ومن يملك سيارة يقودها سائق سيارات الملاكي ، مثل السيارات ، ومن يملك سيارة.

الأحرف الأولى من السيارة التي يقودها الأب أو الأخ ، يبرز الواحد منهم السيارة دون حاجة ، وفي افتعال ملحوظ ، لأن منظر السيارات الفارهة تمرق لامعة ، وتتوقف تسدد باب المسرح ، تداهمه مثلما تداهمها … ، وأصحابها يتلكأون أمام سياراتهم يتبادلون الحديث ، وسائق بزيه رسمي يفتح أبواب السيارة بابا بعد باب ، وتدلف النساء يجررن ذيولهن إلى السيارة أولاً ، بأثواب السهرة المطرزة بالترتر والخرز ، أو محجبات. ولكن أي حجاب إله السموات؟ وكم من اللولي تعقد الحر الغطاء على الرأس كالتاج، وتلتف على العنق اللين المرتاح كالسوار ؟!

والتقت عين الأم بعين أم أخرى تنتظر ابنتها أو ابنها، وابتسمتا ابتسامة كسرت الشعور بالغربة في هذا الجو المعادي والمستفز. تعرفت ، وهكذا ، طوال الليل ، والمدرسة ، والمدرسة ، والمدرسة ، والمأدبة ، والمأدبة ، والمأدبة ، والمأدبة ، والمأدبة ، والأزياء ، والمأدبة ، والمأدبة ، وأحيانًا ، بأخرى جديدة ، وربما بوردة صناعية. وداهم الأم القلق وزميلتها الموظفة تودعها ملوحة وتغيب في الظلمة.

الفوج الأخير من الأهالي ينصرف ومني لا تخرج. المكان الآن شبه خال وأنوار المسرح تنطفئ بالتدريج وهي لا تعرف تأخير مني في الخروج هذا التأخير الطويل. وولجت الأم صالة ، وجلجت ، و صالة و صالة ، و وولجت ، و مبنى ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وجلت ، وأجلت ، وأجلت ، وأجلت ، ورسمت وأجلت. ودفعت الباب ودخلت ووجدت نفسها في حجرة معتمة الضوء مستطيلة كالممر تتراكم فيها في فوضي ملابس التمثيل ، خلعها الأطفال في عجل. وعاودت النداء دون جدوي. وفي نهاية الحجرة وجدت مني بملابس التمثيل مكومة في ركن من الأركان وهزتها:

– جرى إيه يا منى … مش ​​حنروح بقي يا حبيبتي.

وخفضت مني رأسها وضغطت بأسنانها على شفتيها واستسلمت مظلم لأمها وهي تخلع عنها ثياب التمثيل. وشاءت مني أن تستقل بارتداء ملابسها الخاصة. وتبعت أمها مستكينة. وعند باب حجرة الملابس توقفت مني تلقي نظرة أخيرة على المكان ورائحة كريهة تنبعث من ملابس حريرية عطنة وبقايا طعام، وعلب مياه غازية وزجاجات تسيل بقاياها. تيجان ذهبية وفضية من ورق ملقاة على الأرض في إهمال، وزهور صناعية داستها في الطريق إلى الخروج، وقلادة هارون الرشيد الذهبية سلسلة من الصفيح، تلتف حول عنق فانوس ورق بلا نور. واستدفاعها من فمها ، طشك على البكاء ، وأقفلت الباب في بطء خلفها.

***

سالت دموع مني بلا صوت وهي تجتاز الممر الضيق في طريق العودة. يجتمع كعادتهم كل ليلة لمطاردة المجنون. وقطعت مني المسافة من الممر إلى البيت تجري تحتمي من الحصى ويتساقط من السماء. وارتفع عويل مني في السلم والأطفال يتفرقون ، يشيعهم المجنون باللعنات ،

الألف تعقد صفقة ، ثمنها الشيكولاته ، لا البطاطا.

***

فتحت سهام باب الشقة، وتوقفت لحظة ترقب الدموع في عيني أختها الصغرى ثم تراجعت تفسح الطريق. ووقفت مني في وسط الصالة تمسح دموعها بظهر كفها. وطوقتها الأم من الخلف، تربت كتفيها وتقبل شعرها. وأفلتت مني من ضمة الأم، وتجاهلت يد سهام الممدودة إليها ، وسارت إلى غرفة البنتين المشتركة بخطى ثقيلة ، ملقاة الرأس إلى الخلف مطبقة الشفتين.

وأدركت الأم أن مني قد كبرت بدورها. وأصابها الدوار وهي تشعر بسرعة إيقاع الحياة.

كبرت بعد العاشرة ومني ولم تبلغ التاسعة من عمرها.

وطفرت الدموع إلى عيني وهي تعتدل واقفة .. وتذكرت أن أباها أدركت سن البلوغ وهي في الثانية عشرة. كانت الجمعية في حالة الاستثناء ، على كل المستويات. واستشعرت فداحة مسؤوليتها الجديدة كأم. وترحمت على أيام زمان.

وتمنت الأم على الله ، وهي تخلع ثوبه بمناسبة الذكرى ، أن يعين البنتين على اجتياز الممر الضيق بسلام.

 

الرسالة

في جوف الليل أقفز من سريري ، يتأتي عليّ الآن أتخذ الخطوة الأولى، أن أكتب الرسالة. أخيرًا وجدت الحل لأني فهمت السر، لم تعد رجلاً بالنسبة إليّ، تحولت إلى أسطورة. الساعات القليلة التي جمعتنا ، حكاياتك وخيالي ، في كمال الأسطورة جمدتك. ولا خلاص من الجنون الذي أعيشه دون المواجهة، مواجهة الرجل لا الأسطورة. الواقع وحده هو يملك أن يبدد الأسطورة.

ليس من السهل أخطو الخطوة الأولى ، أكتب رسالة لغريب ، كما أوقن الآن. ما حدث في رحلة القطار يخل بكل عقل ومنطق. شيء غير طبيعي. في منتهى الطبيعية بدا ونحن نضحك. وقد تغيرت الجلسة التي تم نشرها في الجلسة العامة. ما أندر الرجل الذي يعرف كيف يضحك! جنبك جلست لاهية أضحك ، لا أتصور شيئًا جديدًا ، أتفتح له لحظة العتمة من ألف عام. لم أعرف فيك الهارب الأبدي لحظتها.

كالسرطان طيلة شهر في كياني. هذا هو الجنون المطبق الذي أعرف الآن كيف أتجاوزه. يتقدم عليّ أن أراك مرة وجهًا لوجه ، رجلاً من لحم ودم ، لكي تتبدد الأسطورة. ولا بد وأن تتبدد. ما حاجة امرأة من طرازي إلى أسطورة؟ أنا أحيا الواقع لا الأسطورة. الأساطير قدرك أنت لا قدري.

مشكلات كثيرة لا بد وأن تحسم تأتيك للرسالة أن تكتب وأن ترسل ، وأنا لا أملك الاختيار. طبيعتي وطبيعتك والطبيعية بيننا ، إن يمكن أن تسمي علاقة بالمعنَى المفهوم. صيغة الخطاب الجمل: هل أنت على الورق عزيزي، ستتداوله وأنت تبادله الأفكار. أم أنت عزيزي الأستاذ ، كما ينبغي أن تكون. على أن تكون. أهو العقل أم الخوف من الرفض: من الليل مثخن بالجراح ، من الفجر مُطعم بالمرارة ، مما تعلو عادة والكلمة والضحكة ، من الغروب وعودة الكليل مره الوقت المناسب من الوقفة على خشبة المسرح؟ ، من همهمات لا تتشكل ، من أصابع الاتهامات أو الخوف من الآخرين: أصابع الاتهامات لا تبين؟ هو الخوف قطعًا. [ماشاء الله! شهر الجنون بدأ يتمخض فاحتضنني الشوك. استعدي لتلقي المولود الجديد، كومي يديك. أن يقودني هذا التفكير المجنون؟ ]

الصدق مع النفس وواقع الأمر يحول بيني وبين مخاطبتك بصيغة الأستاذ، أي مفارقة حقيرة هذه ؟! عزيزي: أكتب أخيرًا على الورق. وليس الصدق مع النفس ولا واقع الأمر.

على أن أكون في منتهى الحرص لكي تستجيب لدعوة اللقاء. اختيار النغمة ليس بالأمر السهل ، ما أكثر ما يتوقف عليه اختيار نغمة الرسالة وما أعقد ما تحديد! وكيف أتوصل إلى إيجاد دقيق بين هذا الكثير من النقائض ؟! صورتي في نظري وفي نظر الناس وصورتك كما حرصت على توكيدها في حكاياتك المشوقة. حكاياتك هي كل رصيدي منك ، وست ساعات مستحيلة في جمالها واكشنها. ما أفدح الرصيد حين يكون خاطفًا! يستحيل إلى أسطورة. لم أعرف فيك الهارب الأبدي وقبضتك تفسح لي الطريق في زحمة رفاق الرحلة ، وقبضتك تقرع مسند المقعد الحديدي ضيقًا بالفاصل قبل أن يتحطم بيننا الفاصل.

من أعلى حكاياتك في قطار من أعلى إلى أسفله. تأكد مما تعرف أن أسارع أجيب وغصة في حلقي ، فالنهار على وشك أن يبدد لحظة العتمة. أجيب صادقة مع المرأة التي بعثت من لحم ودم في لحظة العتمة. كيف تأتي لها أن تفلت من إطار الاحترام؟

ما هذا الذي أفعله؟ يكتب الرسالة الاكترونية؟ وهل أنا بسبيلي إلى اجترار الأسطورة أم تبديدها؟ أم لعلى أنا أخرى لا أملك أن أعيش بلا أسطورة ؟!

لا داعي للّف والدوران، لا بد وأن أدخل في الموضوع مباشرة إذا كتب لهذه الرسالة أن تكتمل. ولا بد وأن تكتمل وأشياء كثيرة في الميزان: عملي ، توازني النفسي ونمط حياتي. لن أدع أسطورة تحولني إلى عينين لا تغفلان ، ترصدان اللاشيء ، إلى ذراعين تعانقان الوهم ، إلى يدين تحلانهار ما تنسجانه ليلاً. لأدع لك أنت الأساطير، ولأستعد أنا حاستي العملية.

عزيزي ، أضيف ، أريد أن أراك. وأتوقف من جديد. لم أستجد رجلاً من قبل لقاء. لم أبدأ الخطوة الأولى أبدًا. لم تستبق يدي يد الآخر قط، لم أمنح قبل أن أتلقي، قبل أن أتأكد من مشاعر الآخر. قبل أن أساوم. في منتهى الكبرياء أنا ، وفي منتهى الاحترام ، في منتهى الخوف من الرفض. عزيزي ، أريد أن أراك. أكتب وماذا لو لم ترد أنت ؟! وماذا لو تصور الناس أني أله خلفك مرفوضة؟ لم أكن أعلم أني صورة محنطة في عيون الناس.

شهر الجنون تمخض فاحتضنني الشوك …]

عن الأرنب المذعور ، تتفتح حكاياتك ، وعن أكثر من صورة ، والصورة تناقض الصورة. أيها صورتك؟ الآن جو حار. الأرنب المذعور يتحرق إلى الدفء ويخاف الشباك. القيود تنتظره في الشباك والجراح ، الخسة والرتابة والقهر والغثيان. يود الأرنب لو تلاشي، لو تكوم في جوف البئر هربًا من الشباك. وأنت البحر الأزلي والموجة لا تتجدد على نفس الصورة أبدًا، الحصاة مدفونة في عمق البحر والزبد. أنت الآن ساحر جبار ، يطير دائخ حول عمامته البيضاء والتهاويم. كل شيء ممكن في الجو المعبأ بالدخان والتهاويم.

مواجهة القديمة الممسوحة تستحيل إلى تعويذة وعن ألف مستحيل ومستحيل أن تتفتح التعويذة ، صراع سمك القرش الوحشي يلد ضحكة لا تنتهي بغصة ، وأطفال بعيون خضر وزرق وعسلية. آلهة الإغريق مهترئو، صبية يلعبون الكرة في الحارة. الأشياء هنا تبدأ لمشيئة الساحر المارد وتختفي ، تكون البداية من عدم تولد. ميت يموت.! الميت من القبر يبعث حيا والحي لا يكون … في الكون يتوحد، في الجمال يموت. غيوم التهاويم والدخان تلتف حول عمامة المارد الجبار تلغي وتفرض الواقع.

لا فائدة ، فائدة ، تصيح أمي متدثرة من خلف زجاج النافذة ، وأنت الآن القط السيامي الوديع في الحجر تقبع ، على الصدر ترتخي عيناك الزروان تضويان بألف نداء ونداء. لا فائدة من … وأنت الآن تنتقم لعالم مشوه من الآلهة. على القمة التي لا تتسع لقدم إنسان ، تقف شامخًا بوحدتك ومتعذبًا. انتظارك يطول وسيفك بيدك للحظة تنتقم لعالم مشوه من الآلهة ، وأمي تصيح متدثرة …

أما لهذا الجنون من آخر؟ وما دخل أمي في كل هذا؟ ]

لا أستطيع أن أكمل الرسالة وربما لا أرغب في أن تكتمل. الأفكار تلاحقني مبعثرة تكاد تنتظم ولا أريد لها أن تنتظم. انتظامها يهددني ، لا أدري لم؟ صورة أمي خلف زجاج النافذة متدثرة التركيز ، بيني وبين اختيار الكلمات الكفيلة بتبديد أسطورتي ، ولكن يتأتي عليّ أن أحاول كانت الصعوبة ، لا أملك التراجع الآن. لم يعد التراجع ممكنًا.

عزيزي. أريد أن أراك نصف ساعة ، أرسل حتى تطمئن ، إن شيئًا ما حدث. الأنباء عن الحدث. اطمئن. ليس هذا ما أريد. أنا. أنا لم أبتر لحظاتي اللحظة أبدًا. لم ألق بلحظة إلى البحر أبدًا … قضيت العمر ألملم لحظاتي في خيط طويل. أعقد الخيط كلما انقطع وأمي متدثرة تقول لا فائدة ، وأنا أجري في حديقة بيتنا القديم أجمع فصوص البرد على طبق من صاج. البرد شاهق البياض، ماس على شعري، على ساقي، على يدي. الماس تدشين …

فائدة، فصوص البرد لا تلبث أن تذوب، لا فائدة، أقول لنفسي والريح من يومها تحملني، يحدوني فضي في طبقي. ضيعت العمر بحثًا عن فصوص لا تذوب.

على الحافة التي لا تتسع لقدم حرج. كيف صبية ؟! في الدور الثالث أمام فصلي أعتلي حافة السور التي لا تتسع لقدم إنسان. أحتضن عمود السور وأنا أنتصب واقفة. كيف كبحت إطلاق الرصاص في إطلاق الرصاص؟ أكنت أمتشق السيف الخشبي أنا الأخرى؟

لم أتصور نفسي أبدًا أهوي على الأرض وأنا أفعل. على القمة التي لا تتسع لقدم إنسان كالطود أقف ، شامخة بوحدتي ومتعذبة ، رأسي يطاول السماء ويداي تشقان الفضاء.

في أخدودي أبحث عن فصوص لا تذوب ، وعلى قمة لا تتسع لقدم إنسان. أبي يحول بيني وبين الفصوص ، وسين وجيم ، وحساب الملاكين ، وسين وجيم ، وحساب الملاكين ، وخبطة في جوف الليل على الباب ، وقيود حديدية.

لا أحد في البيت القديم عداي عرف متعة التكوم في حلكة بئر جف منها الماء. أسمنتي ، مليء بالثعابين ، أنا صغيرة ، ولا شيء على الإطلاق في البئر. اللا شيء في البئر والكمال. الزمان ينتفي في عتمة البئر والمكان ، ولا تعود بك حاجة لنسج الأساطير لتعيش ، الفصوص هنا لا تذوب ولا أحد يملك أن يؤذيك. أصوات المعذبين في الأرض لا تتناهى إليك هنا، ودمهم لا يخضب يديك.

حملت بئري معي بعد أن هدوا البيت الخطأ القديم. لعله الشيء الوحيد الذي تبقي ، لم أحفر أخدودي المرة بعد المرة؟ لأدفن نفسي فيه؟ لم أتشبث بالأخدود في عالم لا يتسع إلا للحفر … يقنع بالحفر؟ صحيح أني لم أكن أعلم ، ولكني لا أكف ، وقد علمت أن الأخدود يفضي إلى البئر. يعلم الرافض للحياة ولا يتعلم. يعلم الهارب من الحياة وينسج الأساطير.

ربما عاطفتي أعمق من أن تتبدد في الحفر ، لا تملك سوى أن تقبع في أخدودها المستحيل. ربما ، حلول ، موسم الهجرة ، موسم الهجرة. ربيع الحب دائم في قوقعتي وفي البئر.

أتمدد في سريري أبعثك، يا شبيهي، حيّا أمامي. ربما تتبدل أسطورتي ولكن حتمًا تتبدل. الزمن في صفي وخيالي. وقد تكون أنت محجوز. وإن لم أجد من أنسج حوله أسطورتي أصنعه.

يتحتم على الرافض للحياة أن يعيش، وأسطورة تسلمه إلى أسطورة حتى يطبق عينيه على الربيع الدائم.

كتبت سنة 1972

11 ديسمبر 1974

117717681_643785136548447_1355614879962733291_n

بدايـــات

 

تلقيت مكالمة تليفونية مفاجئة من سامي اليوم. قرر وفق ما يقرره هو موعده. وطويلاً. وقال ربما لا يعود مرة. (يقترن الشعور بالشيخوخة والخوف من الموت). ولم ألبث تجاوزت الخوف واستعدت إلى الخوف من الإصابة ، ولا أعرف لم نوعًا من الاطمئنان.

في التليفون واتاني الحديث مع سامي في يسر, وكأني أستأنف حديثًا بدأته معه بالأمس. كم طالت غيبته هذه المرة? لم أسمع صوته منذ أن تناولنا طعام الغداء في هذا المطعم الجديد الأنيق في الهرم, كان هذا في أعقاب إنهائي لحياتي الزوجية بالطلاق, أي من حوالى عشر سنوات. لم أشعر بالأمس بالحرج الذي استشعرته وسامي يطلب لقائي ولا ترددت في تحديد الموعد كما ترددت إذ ذاك. ألأني رفضت الماضي بحلوه ومره إذ ذاك وبدأت الآن أتقبله? ألأني لم أعد أخشى وأنا في الثامنة والأربعين تعقيدات الامتداد إلى المستقبل? أي تعقيدات? بعد الثامنة عشرة لم يحمل لقائي مع سامي أي تعقيدات. ألأني وأنا أواجه الآن مرحلة الشيخوخة في حاجة إلى التصالح مع ما مضى من حياتي?

يخطر في بالي الآن خاطر غريب. لقاءات سامي كانت علامات مميزة على طريقي, صادفت تقريبًا كل عقد من عمري. في الثامنة عشرة كان سامي الحب البداية بلا نهاية, الأرض والشمس التي تدور حولها الأرض.

أكانت القصة التي كتبتها قديمًا عن بداية هذا الحب (الأبدي) أم عن نهايته؟ ومتى كتبت هذه القصة؟ بعد نهاية حبي لسامي بعشر سنوات ، أم بعد انفصالي بالطلاق عن زوجي في الثامن والثلاثين؟ أهي عن حبي (الأبدي الأول) أم حبي (الأبدي الثاني) ؟!

يتعين عليك أن توقفت عن هذا العنوان. وأن أبحث عن القصة التي تحملها وأنا في برنامج UNO UNA UNO (حبها الأول). أمامي فرصة ذهبية لا تفعل ذلك إلا أن تقول ذلك ، فهأنذي حكاية تواجه احتمالات الاكتمال.

ملحوظة: أرفق القصة التي كتبتها منذ حوالي عشرين العام بمذكرات اليوم 11 من ديسمبر سنة 1974 لأفرغ لتأمل انطباعات اليوم.

حبها الأول

لفتها موجة حنان وباب مكتبها يسفر عن سامي: لفتها ترتديه ، وهي تخرج من خلفها تتقدم في خطى هادئة تلاقي حبها الأول بعد غيبة عشر سنين. ومالت على المكتب تدق الجرس وقالت وسامي أنجلس في المقعد المقابل:

– تشرب إيه يا سامي؟

وضحكت ضحكات قصيرة متقطعة وهي تلاحظ أن هذه المرة الأولى التي تناديه باسمه والمرة الأولى التي تصمد فيها للمرة الأولى ، والتي تناديه باسمه ، وقد استطال لقاؤهما الأول ما يقرب من ثلاثة أشهر.

رفضت أن تفصح عما أضحكها وسامي يسأل ، وجمد وجهها لحظة والساعي يتقدم وابتسمت ابتسامة العمل التقليدية وهي تطلب منه إعداد قدحين من القهوة.

ونفث يطير حجم يحكي عن أسفاره ، سيجارته يطير في فمه وهو يضحك ، ويده متحركة كعادتها ، ترسم على طرف المكتب خطوطًا وهمية متعارضة ومتشابكة. وتساءلت وعيناها متعلقتان تشبع ، التي لم تجرؤ أبدًا على إشباعها: ذهبت إلى الفورة الحلوة المجنونة لبنت الثامنة عشرة؟

بنت الثامنة عشرة عَدَّت عدم وقوعها في الحب حتى هذه السن كارثة. تجاوزت نظرات المعجبين ، وانتظرت متلهفة من المجهول ، تغشي له عيناها كأنه البريق ، يجتاحها كالإعصار ، تنتفض له كل خلية من خلاياها كمس الكهرباء. وتقلبت في الفراش ليلة بعد ليلة ، إلى السماء ، وهي في السماء الأولى من الجامعة.

كانت تجلس مع ثريا وسميرة في الصالة العامة لمكتبة الجامعة في الأسبوع الأول من إجازة نصف السنة حين دخل الدكتور صفوت وبصحبته سامي. وبعد أن تمت عملية التعارف قال الدكتور صفوت مشيرًا إليها:

– تقرأ رابعة العدوية وبودلير القبلة. الإِنجيل والبيان الشيوعي في نفس الوقت.

وابتسمت هي. كانت تقف إذ ذاك هي والملايين في نهاية الحرب العالمية الثانية على مشارف عالم جديد ، أو توهمت ذلك ، عالم يصالح كل المتناقضات ، تتفتح فيه آمال التحرر الوطني ، تسقط فيه كل الحوائط ، ويتساوى فيه التشوق إلى المعرفة التشوق إلى الحب.

وأدارت رأسها إلى الخلف لترى سامي وهو في طريقه إلى الخروج من الباب الخارجي لصالة المكتبة وأدار هو رأسه ليراها ، وأسدلت جفنيها خجلاً والعيون تتلاقى. ولكنها لم تدرك إذ ذاك غير عادي قد حدث.

وأرسل الدكتور صفوت في استدعاء مجموعة البنات إلى جلسة وسم ودكتور صفوت، وخرجت من الجلسة دون أن تدرك.

خافت والصمت يلف الكلية في إجازة نصف السنة ، يربض متوترًا في الممرات المعتمة ، يطن في الحديقة التي تواجه المكتبة ، كالسكون يسبق العاصفة. واتفقت الحياة تضطرم بالألوان الساخنة ، بالضحكات ، بالمناقشات السياسية ، بأحلام المستقبل تتشكل في الأركان الهادئة خلقًا أدبيّا وفنيّا وسينمائيّا وسياسيّا. بالمناكب تتدافع إلى قاعات الدراسة والمؤتمرات الحكومية والندوات

لمدة ساعتين استمعت طويلاً، وتحدثت واتفقت واختلفت. لم يكن غاندي والشعب المصري يطالب بالكفاح ضد الإنجليز ، بطلها ، كما كان بطل سامي. وضحكت حتى طفرت الدموع من عينيها وسامي يشخص كل حكاية يحكيها ، يقوم ويعاود القيام ، يقلد تمثال الحرية في نيويورك وغاندي يسحب الماعزة في الهند ، ينتقل من حكاية إلى حكاية من بلد إلى بلد إلى بلد قاعه لا يستقر يومًا بمكان. ولم تدرك إلاّ حين بدأت ثريا تلعب لعبتها المفضلة على محطة الأتوبيس، تغافلهما وتعلن مجيء الأوتوبيس وهو لم يأت.

(عليكم واحد) ، قالت ثريا ، وبدلاً من أن تضحك هي كالعادة ، استدارت شفتاها وكادت تبكي. لقد أدركت أن هناك مقعدًا في القرعة. وانكفأت إلى الأمام تحتضن جسدها بذراعيها ، وتستشعر لأول مرة ذلك الشجن الموجع يصل إلى مرتبة النشوة. واعتدلت ووميض الشمس يتراقص حبات ماس ​​على سطح الماء. وتمثل مساحة التفتت إلى الخلف لترى الوميض من جديد ، سوى مساحة رهيبة.

ورجل يمضغ في المقاعد ، ورجل يمضغ في قارعة الطريق ، ورجل يمضغ في رواية ، ورجل يمضغ في حرقة ، وطفلة ، ورجل يمضغ من الناس تطرح الطفلة أرضًا ، تتسارع في اتجاه محطة قطار حلوان ، وقطر يتقدم وئيدًا ثم ينساب … وملأت الزحمة وعيها بألوانها وأشكالها وروائحها ، وعاودتها حالتها الطبيعية إلى أنوت إلى أسرتها في البيت.

ولفتها الحمي يقظي في سريرها تستعيد المشهد في المكتبة وفي حجرة الدكتور صفوت ، تلف في أرجاء وتدور ، تجزئه وتعيد تركيبه. تهد المشهد يائسة وتعود تبنيه، تبحث عن شيء ما ميزها به سامي عن سميرة وثريا. نظرة عند التقاء عينيها بعيني سامي في المكتبة وتحاول أن تصل النظرة بشيء ما خاص بعد النظرة، ولا على الإطلاق. وتثور. لا يمكن أن يحدث يحدث لها نفس الشيء.

ويقفز بها خاطر من السرير إلى درج الحجرة واقفة: سامي أراد أن يراها من جديد، أن يتعرف عليها عليها. ألح على الدكتور صفوت لكي يستدعيها وصديقتيها من المكتبة وإلاّ فيم الاستدعاء؟ وأسندت رأسها بيديها حتى لا تطير. ولكنها تظهر ، وهي كروح هائمة تجوب يومًا بعد يوم تبحث عن سامي ترتاد قاعات المحاضرات ومعارض الفنانين والندوات على أمل أن تراه. و ستعرضها على أنها قادرة على تحمل حجمها ، و ستعرضها على أنها قادرة على تحمل حجمه ، و ستعرضه على خطة تدرك أنها ستحملها معك. يمكن الوصول إليها حتى لو عرفته ، وشبه يقين يبقيها حتى تصل إلى الكلية بعد أن تنتهي إجازة … نصف السنة. وسيصل. ربما. لا بد. لا بد أن يصل.

بدأت تهدأ هدوء اليأس وقد مضى أسبوع على عودتها إلى الكلية ، ولكن سامي جاء أخيرًا. سوف تتطلع إلى أن تصبح قادرة على الحصول على نتائج أسف! لحظة شعرت به ، كانت تقف في صالة من دارها ، دارها إلى مرجع من المراجع على الرف. وجمدت يدها لحظة واستدارت تلاقيه وتوقفت نظرتها عند ربطة عنقه وهي تصافحه. ووقف صديقاتها الحديث.

وتجربة سامي إن كانت أعادت كتاب رابعة العدوية. وباكتر استعدادها استعدادها ، وخشي ألا تكون قد انتهت من الكتاب ، وحصلت على فرصة جيدة. وقررا أن يلتقيا صبيحة التالي في نفس المكان والزمان لتعيره الكتاب.

ومعرفة ما وصلت يومها من المكتبة إلى قاعة المحاضرات ، ولا كيف اندست في هذا المكان الضيق ، وسميرة وسميرة ، تأتي أن تتقاس معها الفرحة التي تغلي في رأسها ، واستحال ، تهمس في أذن ، أيّ جزر ، جسدها معلق في الفراغ. وعلى ورقة كتبت (جاء سامي) وقربتها من عيني سميرة وثريا وتنهدت في ارتياح في انتظار رد الفعل … ولا شيء. سميرة تكمل كتابة المحاضرة وهي تبتسم ابتسامة ابتسامة ، وثريا أظلم وجهها. لا تدري لم؟

وألف إيثر في هذه القاعة ، وألف عين وأذن تترقب ، ولكنهم لا يعرفون. ها ها الساعة التي تدور …

– إنت مجنونة.

قالت ثريا وهي تقفل دفتر المحاضرات في غضب بعد أن انتهت المحاضرة. واستبعدت هي فيما بعد ضاحكة تصوير ثريا الكوميدي لمشهد دخولها قاعة المحاضرات بعد لقاء سامي. فها هي ذي ، على لسان ثريا ، تقتحم قاعة المحاضرات ، قاعة نومها ، بوجه كرغيف الخبز خرج من الفرن لتوه ، يؤنبها الأستاذ وودن من طين وودن من عجين ، تثير صفير الاستهجان من الطلبة وهي تعبر القاعة ، تدوس الرأس وترتطم القبطان السماوي.

استحال في الثلاثة التالية إلى فترة من حياة البنات وهو يزور الكلية يوم إجازته في الأحد من كل أسبوع.

وعرفت هي ، وإن لم يكن على وجه اليقين ، أن سامي يحبها. تتنغم تتحول إلى أشعار دنيوية تتنغم بها كل ليلة والفورة تقذف بها في جسدها إلى الشرفة ، تفجر جسدها إلى ذرات ، ورات تتوحد والسحب تسافر لاهية ، تغيب وتعاود الظهور متنكرة كل مرة ، وهي الآن موكب من الفيلة ولكل فيل زلومة ، سفينة ذات قلاع ، كثير من القلاع تبحر ، خيول مطهمة والخيول تركض. ونور ثاقب لكوكب يتبقي وحيدًا يدفع دموع الشجن إلى عينيها ، والدموع تعود إن كانت تضحك أم تبكي ، والدموع تلون الدنيا بألوان قوس قزح ، وكل شيء رائع وجميل وهواء أنقي وخضرة الأشجار أعمق الأشجار والأيام ، وعامين لا يقاس بالأيام بالساعات التي ترى فيها سامي. ولا شيء ينتقص من سعادتها، ولا هي تريد أن تنفرد بسامي عن صديقتيها. يكفي أن تستمع إليه يتكلم، يكفي أن ترى السيجارة تهتز في فمه وهو يضحك.

السؤال: وماذا بعد؟ استوعبتها اللحظة تحيا عليها حتى تحياها من جديد، فلم تسأل. وحين جاءها سامي يعلن أنه راحل لم يكن اليوم يوم أحد.

وصلت إلى قاعة المحاضرات ، وجمهور الكتاب المقدس ، والسؤال ، ودفع الباب سمعت سامي يناديها واستدارت. وكان من درجات السلم حين قال:

– أنا مسافر.

– فين؟

– لندن، أتعينت مراسل للجورنال هناك.

– مدة طويلة؟

– سنة على الأقل.

وبدا لها صوته غريبًا وكذلك صوتها ، سماها لا يتكلمان ، والكرة تصيب كل مرة …

– مسافر إمتي؟

– بكره.

مستحيل لا بد وأنها تحلم، ليس هذا صوته، الخيول التي تركض في الدور العلوي من أين أتت؟ لو استطاعت أن تصرخ صرخة واحدة لأفلتت من هذا الكابوس. ولكنها تنتظر تنتظر أن تنتظر شيئًا. والتصقت بالحائط يغرق حسها طنين بلا معنى وزحمة من الطلبة تنزل السلم، تعبر الباب إلى الحديقة.

ووجدت نفسها تبدأ سامي خلفها بلا كلمة ، وتجلس لاهثة في أول مكان تجده في قاعة المحاضرات. وطالبة إلى جانبها تلوك قطعة لبان ، تمدها في فمها طويل ، ونحلة تتخبط لتعود تتخبط. ، والزجاج ، والزجاج ، لا ينكسر والنهار ، لا تموت. وقطعة من اللثة من جديد ……… وتقفز هي واقفة منها. ويسألها الأستاذ عما تريد وتقول:

– أنا … أنا عايزة …

المساحة القريبة من الأرض. و كانت تبدو وكأنها مشتغلة ، و كانت تبدو وكأنها مشتغلة .. لو رأته مرة ثانية، لحظة واحدة لعرف، وربما عرفت.

ورأته يومها ولم يعرف ولم تعرف، ليس بالتأكيد على كل حال. كان ينتظرهن على محطة الأوتوبيس ونفي في شدة مفتعلة ، أنه كان في الانتظار. ولم تنفرد به في الأتوبيس ، إلا أن ، والوجه إلى جانب السائق. ولفهما هذا الصمت المتوتر من جديد وهي تنتظر ، واجفة الحلق ، كلمات توشك أن تقال ولا تقال. وعبر الأتوبيس كوبري قصر النيل، وأزاحتها عن الطريق امرأة تحمل على رأسها قفة، وتنهدت وهي تقول:

– عارف أنا نفسي أعمل إيه؟ نفسي أرمي نفسي تحت الأتوبيس ده.

ولم يقل كان شيئًا ، وكان أخرًا وكان نصًا. وتلفتت خلفها ترقب مجري عاتيًا من الماء ينساب في كتابة وجلال وعيون من الصخر تنظر ولا تري.

***

، توقع ، بإمضائها بعض الأوراق العاجلة في ثقة وكفاية ورقة بعد ورقة ، و المتوقعة.

– إنت تغيرت.

من المقرر أن تكتبها وتكتبها. والتقطت ورقة جديدة وتصفحها ، إن لم يكن قد تغير هو الآخر. وفاسمة وهي ترفع الورقة في أعلى وتتركها تسقط في حركة مسرحية مفتعلة:

– الزمن يا أستاذ … الزمن.

وضحك كمات له بحركتها المسرحية ، ولم تضحك هي. حدث سقطت الورقة حتى شعرت فعلاً بوطأة ومادّة العشر من عام 1944 إلى عام 1954. مليئة بالأحداث والأحداث ومن تزل حبلي، بين الفرحة والغصة تقف. ولا هي تعرف ولا أحد يعرف إلى أين تسير. بقيت الغصة ولم تكتمل الفرحة، ولا هي تعرف إلى أين تسير شخصيّا، ولا إلى أين يسير البلد.

ونجح سامي في إخراجها من وجومها ليقول ما أتي ليقول:

– إنت عارفة إني كنت ….

وأعزت رأسها ضاحكة تنهيه من يتشهادة في الكلام ، مقدمًا و مقدمًا ، و مقدمًا و مقدمًا:

– ولسه ….

وبدا ، في آخر مكان آخر وفي أوضاع أوضاع متغايرة. الكلمات تشكلت بعد فوات الأوان. وعدلت هي وضع الورقة التي أسقطتها بحركة مسرحية ووقعتها وضمتها إلى بقية الأوراق وكومتها ، مرتبة ، وهي عبارة تقول:

– مفيش داعي يا سامي نفتح الموضوع.

وقال في إصرار:

– وإنت كمان كنت …

وغطت ضحكاتها القصيرة المضطربة على بقية كلماته وقطرات المطر تسقط كالحصى على زجاج النافذة. وخيم الصمت على الحجرة ، يتحاشي كل النظر إلى الآخر. وكسر الساعي وطأة الصمت بعده أن يسدل شيش النافذة. وحين فعل لم تنس أن تشكره وهي تبتسم ابتسامة العمل التقليدي.

نوفمبر 1955

======

11 ديسمبر 1974

مع سامي سأجلس في شرفة النادي وجهًا لوجه، كهل وكهلة، يجتران ذكريات الماضي. سأضحك وسيضحك ، ويقول إنه يبدو أنه يبدو كما قال. أنمو على مشاعر الحب القديمة ، أتجاوزها. لا لبس ولا التبأس ولا حتى لدقيقة واحدة في طبيعة هذه المشاعر). ولن أنزعج لأن سامي يحبني ولا أودنيّه. من جانبه ، ومن جانبه ، ومن جانبه جانبه ، ومن جانبه جانبه.

وفي طريق العودة ، يوم تناول طعام طعام الغداء مع سامي من عشر سنين. رأيته في رأيه. أعرف أني تجاوزت هذا الوجه من وجوهي ولكن إلى أي مدي؟ أعرف أني تصالحت مع الكثير من الصالون العشر الدائم ولكن بقي الأكثر لأتصالح معه.

اهرب من المنآة ومن عدسة التصوير، يكتمل ما بدأت.

***

تخدم وتوصين في 37 من أجله. أن يسقط ، ألا يكون. عيناي تتطلعان بعيدًا في الأفق إلى ما سيكون. تطول جلستي و (كان) طريق مسدود اقتضاني الإفلات منه صراعا مريرا.

(كيف توهمت إمكانية الفصل بين ما كان توها؟)

سامي يريد لي أن أتحدث عما كان مع زوجي، أن أتخفف. أنا أقطع الطريق. سامي يستثير ذكريات حبنا الأول وضحكته تواتيني تردد أصداء ماض مكتمل بحلوه ومره ، أسدل الستار على الماضي ، وأعود أحكمه. تنزلق كلمات سامي، كقطرات ماء على معطف مطر، دون أن تمسني.

لقد حان وقت استلام شاحنة النقل ، التي أرسلت إلى الطائرة ، وأستمر واقفة. أسترخي الآن وعلى فمي بسمتى الودود الخجلة. أحاول بلا جدوى أن أوقف هذا السيل الجارف من العاطفة الذي يمطرني …

عواطف سامي تحرجني. وأصبحت موجهة إلى امرأة موجهة إلى امرأة غيري. وأنا موجودة وغير حاضرة. أكاد أصرخ وسامي يذوب كيانه في كلماته. كفي، المرأة التي تحبها ماتت، وأنتحل كلمات الحب نفسه ولا أصرخ … تزدهيني كلمات الحب وألتزم الصمت.

وتخرج المرأة في الثامنة والثلاثين كما دخلت مغتربة الرأس والآخرين ، مرفوعة متئدة الخطوات ، مستغنية بلا اكتفاء ، ما من شيء هز كيانها ولا هي بذلت قطرة من هذا الكيان.

***

من الألم وحتمية تجاوز الألم، من مراهق للحياة ونسبية الأشياء، من تعلق مغترب بكمال دنيا غير الدنيا، من عيني الآن دموع تحجرت، كحصي الملح، في عيني المرأة في الثامنة والثلاثين ومرآة السيارة تصفعها بوجه مليح قدَّ من صخر الكبرياء المر، من الألم وحتمية تجاوز الألم تشبث مجنون بالسبل المسدودة حتى الاختناق، ومن عمي عن الباب المفتوح.

وفي أعماقي ، للمرأة المراهقة التي ضلت الطريق ، وقد انفرطت من عيني اليوم وبعد سنوات دموع استعصت عليها.

15 ديسمبر 1974

لم أكتب بالأمس. التقيت بسامي صباحًا.

قالت سميرة وأنا أحكي لها اسم من الحكاية:

– تم توسيع لو التقطت فيلمًا سينمائيًا لمجموعة الانفعالات التي تتابعت على وجهك وأنت تحكين.

وانفجرت ضاحكة وأنا أقول:

– وماذا لو راقبت المشهد مكتملاً ؟!

ولم تكن سخريتي مرة ، ولا كانت ضحكتي دفاعًا عن الذات في وجه ضحكة قد تصدر عن الآخر. واتتني ضحكتي منسالة كمجري صاف بلا سدود ، سمها امتدت ، من يوم تعلمت أن أضحك.

وانتقل الحديث بيني وبين سميرة من موضوع إلى موضوع. قررنا أن حملة التزييف في الجرائد. وجرنا الحديث عن الوعي الزائف إلى مناقشة رواية (ماركيز) (مائة عام من الوحدة). توقفنا عند مشهد اغتيال شريط الشرطة للمتظاهرين في محطة سكة الحديد ، والتي أنكرتها في اليوم التالي المصدر> عمدًا ، وغير> خوفًا ، والكل يقرر أن ما مجزرة حدثت في محطة سكة الحديد. تأملنا كم يتشابه حدث الروائي (الحدث المؤسف) الذي يتكرر الآن ذكره في الجرائد عندنا. تسابقنا في الإشادة بعبقرية الكاتب في الإمساك بلب الحقيقة في عالمنا الثالث ، وقدرة الإنسان على الخلق والتجديد والتجاوز.

وودعت سميرة لأنصرف ، وعلى عتبة الباب وجدت نفسي أتوقف وأقول لها وكأني أستأنف حديثًا لم ينقطع:

– انفعالات العمر مكواة.

واندهشت لأني لم أدرج قبل انفعالاتي خلال لقاء سامي في هذا السياق.

***

– أهلاً يا سامي.

قلت بعد أن اجتزت عدة مناضد من شرفة النادي واتجهت مباشرة إلى حيث يجلس سامي موليًا ظهره إلى المدخل. من الرجال تخطئ المرأة رجلاً أحبته يومًا. تعرف انحناءة ظهره، والعضل الذي يتوتر مشدودًا في 17 رقبته حين يميل برأسه. تميز لون شعره حتى لو مسح الزمن لونه.

حين وقف سامي يحييني أدركت ما فعله بي الزمن، كان مرآتي. ونظرت بلا وعي إلى ساعتي ، سبع دقائق بعد الحادية عشرة ، وقلت لكي أخفي توتري:

– هل تأخرت؟

ونفي سامي حقيقة أني تأخرت. وقال إنه في الانتظار من الحادية عشرة. الرجل الذي هو حبي الأول. وأزالت الضحكة بعضًا من توتري.

قال سامي بعد أن توترنا منسقة إن كانت ترتجفان على طرف المائدة. وقصصت عليه بعد أن أصبحت موضة الملابس والأحذية الأنيقة في 2014 ، وسط سيارات لا تضاهيها في ألوانها السوقية سوى ملابس الكرنفال يرتديها الأولاد والبنات.

وجدت مكانًاًا خاليًا بعد طول لف ودوران والنادي يزدحم على غير ما عرفته سنوات ، بمئات من السيارات. وضعت السيارة في المكان. أن أتنفس ارتياحًا لأن الأمر قد تم. انحدرت السيارة المرتفع التي كانت تقف فيه إلى الخلف، وحاولت أن أرتقي المرتقي المرة المرة بعد المرة وفشلت: عطلت السيارة، وتساءلت في ضيق: ما العمل الآن؟ وكيف أعود إلى بيتي؟ من بداية البداية؟ واكتشفت فجأة عن طريق الخطأ في الركب (والنشاط التجاري والدبرياج) ، وأن العطب كان في حواسي لا في السيارة.

***

أعرف الآن أني قطعت مشوار عمري ما بين بداية توتري ونهايته, أعرف أني لقيت سامي لكي أفعل. أعرف الآن أن العطب كان فيّ أنا لا في السيارة.

***

بالأمس صباحًا, أيقظني اللقاء المنتظر مبكرة, أبكر مما أستيقظ عادة. بذلت مجهودًا لأتجمل, بعد سنوات كففت فيها عن التجمل. وقررت فجأة وبلا تدبير سابق زيارة الحلاق قبل لقاء سامي.

لا يستطيع الإنسان أن يتجنب المرآة عند الحلاق. لم أحب كثيرًا ما رأيت في مرآة الحلاق, غضون رقبتي تعايشت معها وهذه التجاعيد الخفيفة في جبيني وحول فمي. ولكن ماذا عن هذا الأخدود الأسمر الغامق أسفل كل عين من عينيّ? لم ألحظهما من قبل.

بعد أن اكتملت تسريحة الشعر تحسنت الأشياء بعض الشيء. وحين وقفت أزيل بعض الشعيرات التي التصقت بثوبي وألقي النظرة الأخيرة على صورتي في مرآة الحلاق, حسبت أني مستعدة للمواجهة. ولم تكن هناك ثمة مواجهة. عرفت سامي في الرجل الممتلئ تمتد سوالفه مجللة بالشيب, وعرفني بالشحم الذي اكتنز به جسدي وأخدودين أسودين. وجدت سامي ووجدني وظل يردد طوال جلستنا:

– بودي أن أقف فوق هذه المائدة, في وسط كل هؤلاء الناس, وأقول إني أحبك, وإني أحببتك دائمًا.

***

تأتّي عليّ أن أطلق سراح الصبية لأفلت بحياتي من بين ضفتي باب مغلق. ولست أدري على وجه التحديد إن كانت نشوتي وأنا أفعل, هي التي أثارت الفضول اللحوح المنبهر من جانب الجالسين من حولي, أم هيستيريتي. ولا أهتم. لم أعد أهتم بالانطباع الذي أتركه في الآخرين.

بمجرد أن جلست أنا وسامي حول المائدة لمحت زميل عمل يجلس على مقربة مني, وأدركت أن لقائي بسامي سيصبح خبر الموسم في أوساط عملي, وأسقطت عامدة الإدراك عن وعيي. وكان أن نسيت الرجل تمامًا وأنا أضحك أنتشل من عدم الصبية التي كنتها يوم التقيت بسامي, وأنا أضحك بوجهي, بيدي, بمكتمل جسدي, إلى حد قذف حقيبة يدي من فوق المائدة إلى الأرض. ووعيت للحظة أثر هذا الحدث على من حولي. ولم أعد أعي وضحكتي تستطيل منسالة تصل ما انقطع وأنا أبني قصة حبي الأول, أصور المشاعر التي لم تجرؤ الصبية على تصويرها, أكمل الكلمات التي تعثرت على لسانها, وأحيا الصبية من جديد. وأنا الآن هي, كياني وهج وجسدي وهج يشع يزغرد بتشوقات الصبية المكتومة, التي لم تعد مكتومة. وأنا الآن آنا, ومسام جسدي الخامد تتفتح, ترق تعمق, وأنا أتواصل في لحظتي الراهنة مع سامي, أحكي له عن خططي للمستقبل ويحكي, أفضي باهتمامات حاضري ويفضي, يمنحني من لحظته الحاضرة وأمنحه, ما يعينني ويعينه على استكمال المشوار.

***

صباح اليوم فعلت ما تمنيت أن أفعله من سنين. في فورة حماستي للدفاع عن القرار الذي تبنيته في اجتماع اليوم, خلعت حذائي وطويت ساقي تحت جذعي. بعد أن مر القرار الذي أردت له أن يمر, استرخيت في جلستي على المقعد المريح كما أسترخي في بيتي.

وتنهدت ارتياحًا وأنا أعبر بكهولتي ما مضى من عمري إلى ما هو آت .

لطيفة

على ضوء الشموع

 

وقفت خلف باب الشقة التي تقيم فيها تستعجل الرحيل ورغبة قديمة تلح عليها في الإفلات من الشقة العالية تطل على النيل, ومن دائرة نفوذ زوجها الذي يرقد في السرير إلى ساعة متأخرة من النهار كعادته.

وفي انتظار مرور المضيفة صاحبة البيت الريفي في قرية سنور وزوجها الكاتب المسرحي ليصحباها إلى محطة الأتوبيس المتجه إلى بني سويف, وقفت تستعجل الرحيل.

وفي اللحظة الأخيرة دست في حقيبة السفر الصغيرة مشروع روايتها الثانية, فلربما… ربما ماذا? على مدى سنتين وهي تهدم في يسار الدفتر الرملي اللون ما تبنيه في اليمين وخطوط المشروع لا تكتمل. تعليقات الإنسان السياسي فيها, حيا لم يزل, تتغلى في اليسار بتواريخ متلاحقة تمتد من سنة 1960 إلى 1962, ترفض محاولة تصوير تجربة فشل فردية كتجربة الإنسان الكلية, ترفض الخروج على الناس برسالة يأس من الحياة.

فهل يعقل أن تنفرج في يومين أزمة استطالت سنتين? سنتين أم عشرا? تساءلت في مرارة وهي ما تزال تقف خلف الباب المغلق. وغيبت السؤال كعادتها أخيرًا حين تطرق أرضًا محرمة. وانتوت أن تخلص بكليتها لتجربة المعيشة في قرية وهي تجربة جديدة عليها.

***

استقلت الأتوبيس المتجه إلى بني سويف, وقد انضمت إلى المجموعة صديقة ناقدة أدبية وشقيقتها الطبيبة, وزوجها أستاذ علم النفس. وشعرت بنوع من الانتماء والمجموعة التي تسافر معها أقرب إليها من المجموعات التي تتحرك في إطارها خلف زوجها, أكثر أصالة وأقل ادعاءً وأصدق. مع هذه المجموعة يستطيع الإنسان أن يسقط أقنعته وأن يتخفف من دروعه ويرتخي قليلاً, وهو لا يتوقي في كل لحظة الضربة المقبلة. ليست بالمجموعة التي تسهر في كافتريا سميراميس “الليل والنهار” ولا التي تتناول العشاء على ضوء الشموع في المطاعم الأنيقة, ولا تلك التي تزين الليالي الافتتاحية في المسارح ومعارض التصوير والندوات العامة.

تلتقي هي والمجموعة التي تسافر معها في الكثير من الاهتمامات, حتى في السياسة وإن لم تتماثل. تبقي بحكم ماضيها السياسي البطة السوداء في سرب البط الأبيض. الحمراء يقول الكثيرون, ولكن الأمر أصبح يختلط حتى عليها.

***

يتوغل الأتوبيس في طريق الصعيد الزراعي تميزه أشجار النخيل على الجانبين عن معظم الطرق الزراعية في دلتا النيل. تتكاثف أشجار النخيل كالغابات وتبدو التلال الصحراوية في الأفق وجهاز الراديو في الأتوبيس يذيع أغنية “مين قال إن الحب زي العسل والحب أحلي من العسل”. إيقاع الأغنية الرتيب يتكرر على نفس الوتيرة الخانقة والتلال الرملية تتقارب, تجثم على الوادي الأخضر, جاجارين, مترجمًا من الروسية إلى العربية, يتحدث عن أول رحلة للإنسان إلى الفضاء, والتلال تخنق الوادي. يصل الأُتوبيس إلى بني سويف وعبد الحليم حافظ يغني “عشانك يا قمر أطلع لك القمر”.

تحمل المجموعة سيارة أجرة إلى أقرب بقعة من قرية سنور التي تقع على حدود الصحراء الشرقية. تتوقف السيارة وقد عبرت الوادي ولم يعد التقدم ممكنًا.

تغوص هي والمجموعة في تلال الرمل, وتجلس على شط النيل في انتظار وصول المعدية. لم يتبق سوى عبور النيل للوصول أخيرًا إلى بيت ريفي قديم, ندر استخدامه في السنين العشر التي تلت تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.

***

في انتظار المعدية افترشت رمال الشاطئ ترقب الضفة الشرقية للنيل. النيل يلتف في نصف دائرة يحجب الرؤية من الجانبين. الوجود يبدأ هنا وينتهي, عند هذا الشط من الرمال الصفراء الدقيقة الناعمة تلتمع كحقل من الكهرمان تحت أشعة الشمس, عند هذا السوار الأخضر الفيروزي من النخيل السامق يطوق الكهرمان والفيروز في سكينة أبدية.

وودت لو بدأ الوجود هنا وانتهى والسكينة أبدية. وفي الأفق لمحت التلال الرملية تطوق النيل والشط والنخيل, وتطوقها. وقلبت صفحات دفترها الرملي بحثًا عن فقرة في مشروع روايتها تصف الاختيارات المفتوحة أمام بطلتها, وما من اختيار:

“طريق من الطريقين مفتوح أمامها, وقد تلفت بلا أمل في البرء, إما أن تستسلم وتعيش بقية حياتها بطعم المرارة في فمها, وإما أن تتقبل الحقيقة في شجاعة”.

وما من طريقين, وإنما طريق واحد, وما بين الموت والموت موت والحقيقة المطلوب تقبلها في “شجاعة” موت. وانتفضت واقفة تلملم أشياءها وقد وصلت المعدية.

***

ازدحمت المعدية بفلاحين يعودون بملابس الأعياد بعد رحلة لا مفر منها إلى المدينة, وبفلاحين يعملون في المدينة جاءوا بعد غيبة في زيارة قصيرة للأهل, وبمجموعة المثقفين القاهريين وبحمارين وماعزة. وساد المعدية جو احتفائي ودود, والفلاحون يتبادلون التحيات بعد غيبة, يسألون عن الأهل ويحملون الأشواق للأحباب توزعوا في شطري النيل بحثًا عن الرزق.

وجلست هي تستمع إلى الحديث يدور بين ريس المعدية يربط القرية المعزولة بالعالم الخارجي, وبين الفلاحين. ويحكي الريس عن النبوءة التي روجت لها صحف القاهرة منذ أسبوع عن قرب حلول يوم القيامة, وينهق الحمار الأبيض نهيقًا مستطيلاً, وتضحك فلاحة عائدة بماعزتها من المستشفى البيطري وتقول:

– والنبي ياريس لما الموت يجي ما تعديه, عشان ما يجيش حدانا.

تبقي مشكلات البقاء حقيقة الحقائق التي تتضاءل إلى جانبها كل حقيقة, ما دام في الدنيا بشر يكافحون من أجل البقاء. الوجود والعدم لا يؤرق الفلاحة كما يؤرق كير كجارد, “ولا غثيان” سارتر يؤرقها ولا عبثية كامي. ليست الفلاحة من المرفهين. الفلاحة تتعامل ببساطة وبخفة مذهلة مع الموت, أو حقيقة الحقائق, كما يسميه كاتب مصري. تحيل الموت إنسانًا تعايشه وتعانده, تقر بوجوده وتتجاوز هذا الإقرار فيما تتجاوز وهي تكافح من أجل البقاء.

تشتد الريح وتميل المعدية إلى جانب, يستوي سطحها وسطح الماء. تتبادل هي ومجموعتها نظرات التساؤل وبسمات التجلد, مصنوعة في وجه غرق محتمل في النيل, والفلاحون والريس يواصلون الحديث في جو احتفائي ودود وسطح الماء يستوي وسطح المعدية, وكأن الفاصل بين الحياة والموت قد انتفي وتصالحت الأضداد في لحظة احتفائية ودود.

تصل المعدية إلى الشاطئ وتغمرها فرحة الحياة والريس يطلب “السجادة”. تتطلع لرجال يتقدمون نحو المعدية يحملون فيما بينهم شيئًا خشبيًّا. وبدلاً من “السجادة” تتعرف على نعش لطفل صغير. وفي لحظة مكثفة تتصادم الحياة بالموت, وتلتقي عيناها بعيني الفلاحة ذات الوجه البشوش وهي تفسر الوضع بصيغة تقريرية خالية من الانفعال.

– أصل ما حدناش قرافة… بندفن موتانا في البر التاني.

وتراقب الفلاحة تسحب ماعزتها الهزيلة, وتنزل على “السجادة” إلى الشط الرملي بخطى ثاتبة. وتشعر بالخجل لأنها في عزلتها الطويلة عن الناس انزلقت إلى التفكير في عبثة الوجود, وحتمية فشل السعي الإنساني.

***

تأتّي أن يسير كل شيء وفقًا لبرنامج مسبق في إجازة آخر الأسبوع القصيرة, وأرست صاحبة البيت البرنامج. يخصص عصر اليوم لجولة حرة حول البيت والحقول التي يشرف عليها, وكذلك صباح اليوم التالي الذي يتوج مساؤه بالاستماع إلى مغني الأغاني الشعبية ذات اللون المحلي الفريد في هذه المنطقة. وما بين عصر ومساء اليوم التالي يتعين على صاحبة البيت وزوجها زيارة منزل خولي العزبة سابقًا, والمشرف حاليًا على توريد إيجار ما تبقي من أرض للأسرة. وهذه الفقرة من البرنامج اختيارية وعلى من يرغب في الخلود للراحة أن يبقي في البيت, وإن كان من الملائم أن تشارك الطبيبة في زيارة الخولي, وخاصة أن زوجته مريضة وما في المنطقة بأكملها طبيب, وإن تبقي الاختيار في نهاية الأمر اختيارها.

وتساءلت هي وقد انتهت صاحبة البيت من إرساء البرنامج:

– أين القرية?

وما من شيء يبدو من شرفات البيت سوى خضرة تنتهي بالرمال. وأكدت صاحبة البيت أن القرية ليست ببعيدة, وسيمر بها بالضرورة من يختار زيارة منزل الخولي مغرب اليوم التالي.

وما كادت صاحبة البيت تنتهي من كلامها حتى دخلت البيت فلاحة من القرية تحمل للطبيبة الزائرة طفلها الرضيع يحتضر.

***

بدأت بحديقة البيت التي استحالت بعد إهمال عشر سنوات إلى مرتع للأعشاب… حتى الأعشاب جفت. وخطر ببالها وهي تتجول أنها كفت من زمان طويل عن التجوال والتأمل. وارتسم في خيالها الدمع ينسحب بلا صوت على خدين معروقين لأم ريفية, وتساءلت هل بلغت بها التعاسة حد الخوف من التفكير? ما بين تفكير مخطط لمحاضرة, لندوة, لمقال, لحديث إذاعي أو تلفزيوني تقرأ, كل شيء وأي شيء حتى لا تفكر. إن لم تجد ما تقرؤه أسعفتها نشرة طبية للدواء ملقاة هنا أو هناك. هل أصبحت كالقطار يفقد توازنه ويتحطم إن خرج عن شريط السكة الحديد?

– المهم هو الرحلة وليس ما تتمخض عنه الرحلة, مواصلة الإنسان للسعي, وليس ما يتمخض عنه السعي الإنساني. ما من واحة خضراء في مكان ما أو زمان ما يتوصل إليها الإنسان. يلمح الإنسان الواحة الخضراء ويعيشها وهو يسعي. الرحلة هي الواحة الخضراء.

قالت هي تلخص “التيمة” المحورية في مشروع روايتها الثانية, يوم كانت تأمل في استكمال الرواية, وقال الصديق أستاذ علم النفس يعلق على المشروع:

– مشروع هذه الرواية يفلسف للفشل, يعمم ما لا يجوز تعميمه, والأكيد أن السعي الإنساني ليس مرصودًا بالفشل.

وأضاف بعد فترة صمت:

– هل تحاولين تبرير وضع لا تطيقينه?

وتأملت لأول مرة صدق تعقيبه, وأدركت أنها أسقطت هذا التعقيب فيما أسقطت من كلام الناس حتى لا يفقد القطار توازنه وينقلب. وقال زميل لزوجها يقف سياسيًّا على طرف النقيض منه:

– الناس مندهشة لأنك كتبت هذه الرواية الممتازه, رغم كل شيء.

ويومها استبعدت كلام زميل زوجها ككلام فارغ, ففيم الاندهاش وهي, رغم زيجتها, نفس الإنسان, إيمانها القديم لم يتغير ولا إرادة التغيير, سعت شابة إلى التغيير الاجتماعي بالفعل وتسعي إليه امرأة بالكتابة.

وفي حومة نجاح روايتها الأولى نسيت عهدًا قطعته على نفسها ورهانا عقدته: لو ملكت القدرة على استكمال هذه الرواية لواتتني القدرة على التحرر من زوجي, ومن هذا البيت, ومن هذا الأسلوب من الحياة.

وأكملت الرواية ونسيت العهد والرهان اللذين تتذكرهما الآن.

وتتبعت ممرات الحديقة مرصوفة بالحصى المدبب, وتساءلت: هل استوي الحصى على مر السنين أم تبلدت مشاعرها ولم تعد تشعر بالوخز يواتيها كل حين? وهل هي حقًا نفس الإنسانة بعد زيجة استطالت عشر سنين? هربت من الطفل نحلت ساقاه وانتفخت بطنه, تركته خلفها في البيت يموت وخرجت في جولة حرة. ربما اختنقت بالليل على وسادتها وبكت الطفل قليلاً وانتظم تنفسها وقد تمت عملية التطهير. وإن اختنقت من جديد وهذا المظهر من مظاهر البؤس والحرمان والقهر يلح عليها أو ذاك, ففي الروايات والمسرحيات والأفلام متسع للجميع. وبدلاً من أن تشارك بقدر ما تستطيع في تغيير الأوضاع ستبكي في ظلمة المسرح والسينما والسرير. ستظل تلعب لعبة البكاء لتوهم نفسها أنها لم تمت وما زالت تعيش. أدموع التكفير عن الذنب هذا السيل من الدموع أم دموع التطهير? وتمتمت وهي تستشعر وخز الحصى:

– شيء ما خطأ في بنياني.

وأضافت تطلب النجدة من ناس لم يعد لهم وجود يومي حي في كيانها:

– بالله عليكم دلوني أين موطن الخطإ.

– الناس تقول إنك تحلمين على الورق, تناضلين على الورق, تحققين على الورق ما لا تستطيعين تحقيقه على مستوى الحياة.

قالت لها ممثلة تكن لها الاحترام معلقة على روايتها الأولى, وهما تجلسان في كافيتيريا الإذاعة, ووصلتها الوخزة هذه المرة, وبدلاً من الإقرار بالحقيقة أجابت يومها في حدة واعتداد:

– فليحلم من يستطيع رواية مماثلة في الجودة.

وما كاد التعليق الساخن والرد السريع ينتهيان حتى انصرفت كل منهما إلى أداء دورها على الوجه الأكمل, الممثلة لدور من الأدوار التي تتغير كل يوم, وهي: إلى أي دور انصرفت? دور الكاتب الذي بزغ فجأة من المجهول إلى المعلوم وهو يملك مفاتيح لعبة الكتابة, الفنان القادرعلى أن يمنح من يريد أن يلعب مفاتيح اللعبة.

وأسوأ ما في الأمر أن اللعبة ليست بلعبة على الإطلاق. وأنها أصبحت وقد انتهت روايتها الأولى أشبه ما يكون بجحا ضاع صندوقه, وإن تبقت معه مفاتيح الصندوق. مفاتيح حرفة الكتابة مكتملة لا تملك أن تصنع هذا الوله الخالص بالحياة الذي هو مادة الفن. فأين هي الآن من هذا الوله الخالص الذي يتحول بدونه الفن إلى مادة للتسلية أو لعبة زخرفية?

– أردت أن أمسك برؤيتي للحقيقة كشابة, قبل أن تفلت مني هذه الرؤية نهائيّا.

داهمتها العبارة التي قالتها لمذيع محطة أجنبية, سأل:

– لماذا هذه الرواية بالذات وفي سنة 1960 بالذات?

ودهشت يومها وهي تستمع إلى نفسها تقر بحقيقة غيبتها طويلاً, ولا شك في أنها عادت وغيبتها, فها هي ذي العبارة تداهمها وهي تسير في حديقة جفت أعشابها وكأنها جديدة وقديمة, عرفتها وغيبتها. وأقرت أن الرؤية في روايتها الأولى ليست برؤية عمر معيش, وإنما عمر انقضي وسقط عن هذه الإنسانة التي تلعب لعبة البكاء.

وصعدت درجات السلالم المتآكلة تقسم الحديقة إلى مرتفعات ومنخفضات وهبطتها… لا شك في أن هذه المرتفعات والمنخفضات عنت الكثير والزهور تتفتح للشمس والهواء والأشجار سامقة, جذورها في الأرض وفروعها في السماء, ولم تعد تعني شيئًا. يستوي الصعود والهبوط الآن وقد جفت الحديقة.

حين نقلتها روايتها الأولى إلى قلوب الناس عني الوصول الكثير ولم يعن شيئًا, وكأن التي وصلت إنسانة أخرى غيرها, مخلوقة انتحلت ولهها الخاص بالحياة. في عيون البنات رأت بريق التعرف عليها وعلى الذات وفي شدّة يد ممتنة لشاب يصافحها على استحياء… وحلمت ذات ليلة أنها مدعوة إلى حفل. على درجة من درجات السلم المؤدي إلى قاعة الاحتفال وقفت مع بقية المدعوين, يسبقها ناس ويلحق بها آخرون, تعرفت بينهم على بعض كتاب مصر المعروفين, ونقلها مس كهربي وهي تقف في الصف على درجة من درجات السلم إلى حالة اليقظة تتساءل: هل أصاب الوخز بقية المدعوين أم انفردت هي بالشعور بالوخز?

ويومها شعرت أنها غشت قليلاً لكي تصل إلى قلوب الناس وأن الوخز قد أصابها لأنها فعلت, ومن يومها لاحقها الشعور بالفشل وهي تتحرك في دائرة النجوم التي تعبر في خطوة واثقة وابتسامة مدروسة مصنوعة, ممرات مبني الإذاعة والتليفزيون لتنتهي بالقول: (في الواقع…). وما من واقع فيما تقول.

وتهالكت جالسة على مقعد صخري وقد وجدت نفسها في كشك خشبي آيل للسقوط. وأقرت بأن لون التخشيبة قد تحول من الأخضر إلى الترابي. وألح عليها تعليق في يسار الدفتر الرملي يهدم مشروع رواية لا تكتمل في يمينه. ووجدت نفسها بلا وعي تردد كلماته: “الهروب من المواجهة لا يشكل حلاّ, يساوي الإقدام على الانتحار كبديل لانتظار استكمال عملية القتل”.

وأقرت بأن حبل خداع الذات طويل, وإن التف في نهاية الأمر على عنق الإنسان. وأخافها الإقرار فهربت إلى فسحة حقل قريب.

***

حاولت أن تتعرف على النبات الأخضر في الحقل. بدا لها من الضروري أن تفعل. ومدت يدًا مرتجفة وقطعت ورقة من أوراق النبات وقربتها إلى أنفها, وتركزت كل حواسها في حاسة الشم. ولم تتعرف على النبات. قطعت الورقة نصفين وذاقتها, مضغت جزءًا منها واستحلبته وهي تتذوق لتعرف ولم تزدد علمًا. بصقت الرحيق ومضت تتدحرج في الحقل.

تذكرت أنها أكلت, شابة, كوسة خضراء نيئة من الحقل وأحبتها في حومة الوله بالحياة الذي يعطي لكل شيء مهما صغر وتباين, مذاقًا خاصّا وفريدًا. حلمت صبية أن تجري هي وحبيبها حافية القدمين في حقل فول أخضر. أن تتمدد هي وحبيبها تضمهما الخضرة ورائحة الأرض الخصبة. أن تأكل هي وحبيبها الفول بشوكه مع الجبن القريش. وانتهت هي وزوجها يتناولان العشاء على ضوء الشموع كالعاشقين, وما من عشق تبقي بينهما. وأرادت كل مرة وهو يسحبها إلى هذه الدائرة اللامعة أو تلك أن تصرخ: كذبة هذه الشموع, كذبة زيجتنا, كذبة كل دائرة ندور فيها. وبدلاً من أن تصرخ تبدد الكذبة, عاشتها. وتساءلت هل أصبحت بدورها كذبة, جزءًا لا يتجزأ من مؤسسة تدمن المسكنات وتتحاشي الاصطدام وتقنّع الكلمات حتى لا يتفجر صراع الحياة الحي الصاخب?

بدلاً من أن تصرخ قرأت على زوجها ذات صباح قصيدة عن زيف المثقفين الساهرين في كافيتريا “الليل والنهار” نشرها صلاح عبد الصبور في أهرام الجمعة. لا تذكر الآن من القصيدة سوى بيت واحد وربما المعنَى دون الكلمات, المرأة تقول للرجل يسهر معها في الكافيتيريا:

قم بنا يا حبيبي قبل أن يطلع الصبح وتزول مساحيقي ولكنها تذكر أن عينيها غصت بالدموع وهي تقرأ القصيدة وتطهرت, واستمرت تعيش الكذبة.

وتذكر أنها لم تنس وهي في حومة الانفعال, أن تقرأ القصيدة كما ينبغي أن يقرأ الشعر الجيد المتذوق الجيد. وما بين الانفعال وضروريات اللياقة عاشت الكذبة.

في المطعم الأنيق تجلس وجهًا لوجه مع زوجها, تفصل بينهما الشموع وأنصاف الحقائق ومرارة الحقيقة وقسوة الخديعة والرفض المتبادل لماهية الآخر, والخوف من الاصطدام, والحرص على الصورة الاجتماعية والتظاهر بنجاح مشروع أفلس من زمن طويل, وكلمات قلم الحب أظافرها, وبعد الحب الجبن الاجتماعي أو تمدين المثقفين كما يسمي, كلمات لا تفصح أبدًا, تهرب كالزئبق, تلف وتدور متقنعة في المسالك الجبانة. تود لو تصرخ ولا تصرخ. وفيم الصراخ وجلسة الشموع ليست سوى طقس آخر من مجموعة الطقوس التي تشكل حياتهما معًا, حركتهما معًا ومع الآخرين, طقس من هذه الطقوس التي تدمرها, ولا تكف عن أن تساهم في صنعها.

حديثهما الليلي معًا طقس من الطقوس, إن جاز أن يسمي حديثًا. كان يومًا ولم يعد. على مر الأيام تحولت إلى أذن تستمع بعقل يثقله ركام الأكاذيب وأنصاف الحقائق يتكاثر يومًا بعد يوم وهو لا يكف يتكلم, ينسج المزيد من الأكاذيب وأنصاف الحقائق, وعقلها يشت يومًا بعد يوم دون أن تدري حتى أنه يشت…

تحت وطأة الركام يشت عقلها الآن وهي تتكلم, في حضور زوجها وفي غيابه. في جمع من الناس تتكلم كما يتكلم الناس, وفجأة ترتد إليها نظرة الاستغراب في عين مستمع إلى كلامها, وتدرك أن عقلها يضيع, وبدلاً من أن تهب صارخة: كفي, تلتزم الصمت معقودة اللسان.

طقس الطقوس الليلي وهي تستمع, إن كانت نائمة أيقظها, لا يكتمل اليوم دون طقس الطقوس. يعد لها طعام العشاء على صينية ويجلس على طرف سريرها يحكي عن نجاحاته اليومية التي لا نهاية لها. عند النجاحات الغرامية ترد في الحكاية أنصاف الحقائق: تصوري أن الناس تقول إني على علاقة بفلانة? وصعب عليها في يوم من الأيام أن تتصور, لأن فلانه فعلاً في موقع الابنة منه, حتى إذا ما وصلتها الحكاية قال: ألم أقل لك? وخرج بريئًا كالذئب من دم الحمل. ومن سنين صاحت فيه:

– توقف عن الكذب أرجوك, لجوءك المستمر إلى الكذب شيء مهين لك ولي, وهو إهانة مجانية لكلينا, لم أطالبك بالتفسير ولن أطالبك.

ولكنه لم يتوقف, استحال عليه أن يعيش دون مستمع ليلى لنجاحاته اليومية التي لا نهاية لها ولمراراته اليومية من جحود الناس والدنيا التي لا نهاية لها أيضًا. وعلى مر الأيام تحولت هي إلى أذن تستمع وفم معقود اللسان. يتأتي أن تنام لتذهب إلى عملها مبكرة وقادرة على أداء هذا العمل. لو اختلفت سيبقيها الليل ساهرة حتى تقتنع, أو وهذا هو الأسوأ, حتى تتظاهر بالاقتناع لتنام. على أمل اللقاء الفكري سهرت سنين تتناقش, ثم كان أن تحولت إلى أذن تستمع بفم معقود اللسان بعد أن اكتشفت أن لا أرضية بينهما للقاء. حتى اللقاء بينهما في السرير استحال, تحول بدوره إلى طقس مدمر.

الزوجي” وينام. يوم لم يكن لقاؤهما في السرير طقسًا صرخ فيها:

– أنت تحتقرينني.

وتطلعت إليه في اندهاش مستفسرة, وأضاف موضحًا:

– جسدك يرفضني, يحتقرني.

ولم تكن تعرف أن الجسد يكون أحيانًا أذكي من العقل, وأفصح تعبيرًا, ولم تكن تعرف أن خداع الذات الذي يجوز على العقل لا يجوز على الجسد, ما من شيء يخدع الجسد عن أحاسيه. وعرفت ولم تزْدد علمًا وقد عرفت. توقعت أن يكف عن العملية الجنسية ولم يكف. تعمدت أن تباعد المدة وإن لم تكف. وتحولت العملية إلى طقس مدمر. حولها إلى أداة إشباع وبدلاً من أن تهب صائحة كفى, مضت متورمة العينين من السهر العقيم في سريرها المنفرد بهذا الشعور الذي لا يريم بالغثيان والإخفاق.

– ولكن شخصيتك ليست بشخصية المحارب.

قال لها منذ أيام زميل في العمل وقد استدعت الأوضاع الفاسدة تجميع الجهود في معركة مفتوحة وطاحنة مع الإدارة, وأجابت هي ربما في تسويغ وربما في اعتذار:

– فلنجرب. أنا أشتري راحة البال بكثير من التنازلات الصغيرة.

ولكن عندما تصبح المسألة مسألة مبدإ تجدني عنيدة كما الحمار.

وأقرت وهي تتمدد وسط خضرة لا تعرف لها مسمي أن سفح الجبل هو نفس السفح. وأن لا قرار للتنازل, وتنازل صغير يسلم الإنسان إلى تنازل أكبر, والتنازل اللامبدئي يختلط على الإنسان بالتنازل المبدئي على مر الأيام, ويفيق الإنسان ذات يوم ليجد نفسه في الهوة بلا قرار. وأقرت بأنها لم تصرخ في زوجها لأنها استحالت بدورها إلى أكذوبة, تلعب نفس اللعبة وتلتزم بنفس قواعد اللعبة, وأن زوجها أفضل منها لأنه لا يتظاهر بغير ما يفعل….

وأقرت بأن الغضب لم يعد من حقها. الغضب حق القادر على أن يبتر ويصل.

***

غني المغني ليلة السفر بعد عودة المجموعة واجمة ومتوترة من المرور بالقرية وزيارة منزل الخولي. حكي حكاية قرية تخنقها تلال رملية وصخرية, وناس عاشوا في القرية يحيلون على مر السنين الصخر خضرة. وبددت آهات الناس وضحكاتهم عبر السنين حالة الوجوم والتوتر التي استبدت بالمجموعة لحظة عادت إلى البيت. وجلست هي جافة العينين تستمع إلى حكايات الزرع والحصاد, الأمل والجوع, العشق والموت. لم تعد لعبة البكاء تجدي.

لم تشارك هي في لحظات الوجوم ولا التوتر الذي تلا الوجوم, بعد المرور بالقرية وزيارة منزل الخولي. تجاوزت مرحلة الشعور بالذنب, ومرحلة التخفف من الشعور بالذنب بمحاولة إسقاط المسؤولية على قوي مجهولة أو على الآخرين. انعزلت عن المجموعة مع إدراك جديد بأن عالمها في شقة تطل على النيل قد انتهى.

شيء في ما حدث في مغرب اليوم ومسائه أنهي هذا العالم بلا رجعة. ولم تعرف على وجه التحديد, هل انتهى وهي تمر بمسالك القرية الطينية, تقاوم وتنتصر على رغبتها في الوقوع في حالة الإغماء? أم انتهى في منزل الخولي لحظة صرخت مخنوقة “أخرجوني من هنا”? ولكن الأكيد أنه انتهى. لم يعد اجترار التعاسة على ضوء الشموع ممكنًا ولا ممارسة الحلم على الورق.

ووضعها الشعور بحتمية النهاية أمام ضرورة وضع القرار موضع التنفيذ. وانعزلت عن المجموعة تسأل: هل أستطيع? هل تبقّي من الشابة التي كنتها بقية تعينني على بتر ما هو قائم ووصل ما انقطع?

لم يكن من الصعب عليها التكهن بما حدث في البيت في أعقاب مرور المجموعة بالقرية وزيارتها بيت الخولي, عاشت لحظات مماثلة من قبل عشرات المرات, وإن لم تعرف لقسوة اللحظات التي عاشتها الليلة مثيلاً. جلس أفراد المجموعة في الصالة في مواجهة بعضهم البعض أغرابًا, يتحاشي الواحد منهم النظر إلى الآخر خشية أن تفضح النظرة المستور. ولم يلبث الوجوم أن تحول, كما توقعت, إلى توتر, وكل يحاول أن يتخفف من المسؤولية يلقيها على قوي غير مرئية أو على الآخر…

الإقرار بالمسؤولية يعني انهيار القوقعة البراقة بارعة الجمال التي بناها كل لنفسه في القاهرة ليعيش, الذي يحتمي فيها كل ليعيش. والسؤال: ماذا فعلت لأغير الأوضاع? سؤال يتأتي تجاوزه بأي ثمن لأن الكثير في الميزان.

وحل التوتر, كما توقعت, محل الوجوم, واتهم كل الآخر أنه تعامل مع الحدث كالسائح جاء يتفرج على تعاسة الفلاحين, وضاقت دائرة الاتهام في النهاية وانصبت على الطبيبة التي لم تتفرج كالآخرين. وصلت ما بينها وبين الفلاحين وهي تتبادل الحديث, تعالج أطفالاً في مرحلة الخطر وأطفالاً يحتضرون, ترسل إلى بني سويف لشراء الأدوية والحقن الطبية, توصي بعلاج طويل يستمر بعد مغادرتها القرية, تتمزق وهي تدرك أن أحدًا من أهل المرضي لا يملك من المال ما من شأنه أن يضمن العلاج الطويل, تصرخ في طوب الأرض احتجاجًا على انعدام الرعاية الصحية في القرية وفي المنطقة بأجمعها.

قيل إن الطبيبة طرحت, كالسيّاح, أسئلة ما كان ينبغي أن تطرح على الفلاحين.

***

في لون واحد ثابت لا يريم بدت القرية في عتمة المغرب, في لون الطين. واستبد بها الدوار وبيوت الطين تغيب أبعادها في عتمة المغرب, وناس من طين يجلسون على عتبات البيوت, وبطون منتفخة وشفاه جافة, ودم في لون الطين يسيل من أفواه أطفال يحتضرون. وناس يختفون في مسالك القرية كدمي من الطين, وأعناق قلقة نحيلة متصلبة لحيوانات كلعب الأطفال. ولا شيء يقطع الصمت سوى سعال دموي, وامرأة تنعي وليدها بصوت خافت لا يكاد يبين.

وترنحت كالمخمورة بالألم, وأدركت أن هامشًا دقيقًا يفصل بينها وبين فقدان الوعي وأن خلاصها يتوقف على تجاوز هذا الهامش والبقاء واعية, وبدلاً من أن تهرب هذه المرة أيضًا, تمهلت تترنح بدوارها. وبدلاً من أن تغمض عينيها لكي لا يطعنها الألم كالسكين فتحتها على اتساعها لتري. ورأت وسمعت واستوعبت, وتوقفت تجتر في ذاكرتها ووجدانها تفصيلاً بعد تفصيل لكيلا تنسي, لكي لا تغضب.

لا لم تفر من القرية هذه المرة ولا من الناس من الطين. إليهم عادت بعد طول غيبة. من بيت الخولي هربت.

شيء ما زائف ومصنوع في بيت الخولي. من البيت الطيني أراد الرجل أن ينسلخ إلى بيت من الطوب الأحمر, ولم تساعده فيما يبدو إمكانياته. بقي معلقًا بلا بيت كمن رقص على السلم, لا هو ينتمي إلى حيث ينتمي الفلاحون ولا هو ينتمي إلى أصحاب البيوت من الطوب الأحمر. بيت الخولي ليس ببيت على الإطلاق. بيت الخولي حجرة في الدور الثاني معلقة في الهواء بسلم بلا سور. ولا شيء في الدور الأرضي على الإطلاق, لا غرف للأولاد من مختلف الأعمار ولا زريبة للحيوانات, لا فرن لخبز العيش وطهي الطعام ولا دورة ماء. مجرد حجرة معلقة في الهواء على سلم بلا سور كديكور تمثيلية لن يلبث أن يزال.

لم يكن الصعود إلى الحجرة المعلقة صعبًا, تبقت في الغروب بقية من ضوء جعلت الصعود هينًا. الخروج من الغرفة المعلقة هو الصعب وقد تبددت البقية الباقية من ضوء النهار. ووجب الخروج أيًّا كانت الظلمة وأيًّا كانت الصعوبة. لا بديل للخروج إلا الموت اختناقًا.

وتساءلت وهي تستمع إلى مغني القرية يحكي حكاية الزرع والحصاد, الأمل والجوع والعشق والموت: هل حملوا المرأة المريضة قسرًا, أم ساهمت هي راضية في الاستعراض الذي أعد كديكور لحساب ضيوف قادمين من القاهرة? ورجحت الاحتمال الأخير, فما من أحد ينقل أحدًا قسرًا على ما لا يرتضيه.

كم بدت غريبة ومنبتة تلك المرأة المريضة وهي ممددة على السرير المعدني الأسود في حجرة معلقة في الهواء ما زالت بقايا الجير تعلق ببلاطها. كم بدت غريبة ومنبتة وهي تنام ربما لأول مرة على سرير, نومة غير نومتها. وتساءلت: هل يتأتي للمرأة المريضة أن تعود الآن إلى حيث تنتمي وقد انتهت اللعبة?

***

لم تدر هي على وجه التحديد ماذا حدث للمرأة بعد أن انهار السرير المعدني الأسود. على العتبة وقف الرجال من الضيوف وأصحاب البيت, وفي الحجرة المعلقة وقفت هي وبقية الضيوف من النساء لصق الحائط ليفسحوا مجالاً للطبيبة. بعد تبادل السلامات والتحيات بدأ الكشف الطبي.

عرت الطبيبة المرأة من ملابسها وما كادت تميل تضع السماعة على قلبها حتى انهار السرير بالمرأة عارية, وخرجت هي من الغرفة مختنقة بخزيها تهمس للصديق أستاذ علم النفس:

– أخرجوني من هنا.

وفي الهواء الطلق خارج منزل الخولي وقفت ترتجف بخزيها, تتحسس جسدها, تستشعر عمق الجراح التي أصابتها لحظة انهار السرير بها عارية.

***

وتساءلت هي والمغني قد رحل, وصاحبة البيت تدس شرائط تسجيل الأغاني في حقيبة السفر استعدادًا للعودة إلى القاهرة, هل تملك المرأة القدرة على بتر ما هو قائم ووصل ما انقطع? ورعت غضبها كما ترعي الحامل الجنين, وهي تدرك أن طلب النجدة لم يعد يجدي. يتأتي على المرأة, وقد انتهت اللعبة, أن تقف على قدميها, أن تؤوب إلى نفسها إلى أهلها وناسها, إلى بيتها بعد غيبة عشر سنين .

كتبت سنة

1985

102555236_670521323804642_5536545117125492328_n

لطيفة الزيات  “الوله بالحياة وحقيقة الفن”

د. عزة بدر

” الباب المفتوح ” رواية لطيفة الزيات التى صدرت عام 1960 لم تكن وحدها الرواية الرائدة فى التعبير عن الانتصار للحياة , والإرادة الإنسانية

التى ترى تحقق الذات الفردية مرتبطا بتحرر المجتمع , وتحقق حرية الآخرين بل إن أعمالها الأدبية تعد حلقات متصلة تحمل هذا المعنى الحقيقى للتحرر , تحرر الذات وهو فى الوقت نفسه تحرر المجتمع واستقلاله .

بطلاتها يسعين نحو أبواب مفتوحة , بجرأة وشجاعة , يخترنها بعد تجربة معاناة وانصهار الذات فى مجتمع يحفل بالقيود الاجتماعية , والمعوقات التى تجعل الطريق طويلة وصعبة أمام الذات المحبة للحياة التى تنشد ربيعها الدائم .

إن جوهر الإبداع فى أعمال لطيفة الزيات هو الولع بالحياة بل إن الفن نفسه بكل أشكاله هو تجليات هذا الولع والعشق للحياة , فتقول على لسان بطلتها الكاتبة فى قصة ” على ضوء الشموع ” من مجموعتها القصصية

” الشيخوخة وقصص أخرى ”  المهم هو الرحلة , وليس ما تتمخض عنه

الرحلة , مواصلة الإنسان للسعى , وليس ما يتمخض عنه السعى الإنسانى

بطلتها امرأة شابة سعت إلى التغيير الاجتماعى , وترى الكتابة وسيلة لتحقيقه , بل تعتقد اعتقادا راسخا أن الوله الخالص بالحياة هو مادة الفن

وبدونه يتحول الفن إلى مادة للتسلية أو لعبة زخرفية .

على ضوء الشموع

—————–

تكتشف بطلة هذه القصة تعاستها على ضوء الشموع , التى ليست سوى طقس من طقوس تدمرها إذ تترسخ مرارة الحقيقة , والرفض المتبادل لماهية الآخر , وهو هنا الزوج الذى يصبح فى هذه القصة رمزا لمجتمع يباهى بالمظاهر الاجتماعية دون العناية بتأمل جوهرها  , والحرص على الصورة الاجتماعية للفرد حتى لو وقع الفرد أسيرا لهذه الصورة ذاهلا عن نفسه , وتحقيق ذاته الاجتماعية الحقيقية .

فتتمرد البطلة : ” لم يعد اجترار التعاسة على ضوء الشموع ممكنا , ولا ممارسة الحلم على الورق ” .

وتبحث بطلتها عن بطل آخر يقاسمها رغبتها فى تحقيق الذات والتحرر ويكون هذا البطل دائما هو ” الباب المفتوح ” الذى بدأت به الكاتبة فى

روايتها الأولى , لقد ظل هذا الطرق المتواصل بنقرات مطردة , بيد مضرجة بحب الحياة بل الوله بها , وإدراك طبيعة الفن , الطرق بيدين

مُصرتين على تحقيق الذات الإنسانية , المرأة الريفية المريضة فى القصة هى رمز لمجتمع يعانى ممثلا فى أكثر رموزه رهافة وتأثرا وهو هنا

 المرأة التى تتمدد على سرير معدنى أسود ينهار بمجرد محاولة الطبيب الاستماع إلى دقات قلبها بسماعته , وهنا تتمرد بطلة القصة الكاتبة وهى ترى هذا المشهد فى رحلتها إلى قريتها فتصرخ :

” أخرجونى من هنا ” , بدت هذه المرأة المجتمع معادلا موضوعيا للبطلة التى ترفض العشاء على ضوء الشموع فى علاقة ارتباط  وزواج لا تتحقق فيها بل علاقة تنطوى على مرارة الحقيقة وقسوة الخديعة ,  “رعت غضبها كما ترعى الحامل الجنين , وهى تدرك أن طلب النجدة لم يعد يُجدى , يتأتى على المرأة , وقد انتهت اللعبة أن تقف على قدميها , أن تؤوب إلى نفسها , إلى أهلها , إلى بيتها ” بل إلى قريتها فتهجر ضوء الشموع فى مقابل حلم تتمناه , يتحقق أو لا يتحقق , ليست تلك هى المشكلة

وإنما البحث عن الحرية والانعتاق من القيود التى تكبلها وهى هنا رمز لمجتمع يعانى تحت وطأة مظاهر اجتماعية لم تتوافر لها بنية الصدق ولا العاطفة الحقيقية التى تبنى ذات الفرد الاجتماعية والنفسية   .

الأمومة الصادقة

—————-

وفى قصص لطيفة الزيات تتحقق الأمومة التى تعنى احتضان المجتمع بقضاياه كاحتضان الأبناء , حيث يصبح الخاص هو العام , لا فرق بينهما

وهو ما يميز أدب لطيفة الزيات التى ارتبطت بقضايا المجتمع كما ارتبطت بقضايا الذات , ففى قصتها ” الممر الضيق ” من مجموعتها القصصية ” الشيخوخة وقصص أخرى ” نرى تغيرات اجتماعية واقتصادية يموج بها مجتمع السبعينيات , وفى القصة رصد لهذه التأثيرات على أسرة مصرية , وعلى مشاعر أم تود أن تصل ببناتها إلى بر السلامة

فتصف القصة فى رمزية واضحة تحول محل البقالة إلى بوتيك , وامتلاك موظف لسيارة بثمانين ألف جنيه , والمفروض أن دخله يماثل دخل غيره

من آباء التلميذات من الموظفين , فى إشارة إلى بعض مظاهر الفساد ,

فى حين ترصد عين بطلتى القصة الصبيتين هذه المتغيرات وتتطلعان إلى عالم أفضل ,  فتصف الساردة رؤية إحداهما لحياتها فتقول :

 ” طافت نظرتها بالحجرة , وتوقفت عن البلاط العارى , وأريكة تدلت أحشاؤها , وشق فى الحائط المقابل , يتعمق يوما بعد يوم , وبدت نظرتها كفأر وقع فى المصيدة ” .

وفى الخلفية تغنى سعاد حسنى ” يا تجيبلى شكلاطة يا بلاش ياولة , روح رجع البطاطا .. ” , وهنا تنتبه الأم إلى أحلام البنات , وتأخذ بيد ابنتها من الممر الضيق , فى مسرح المدرسة بعد نجاح الفتاة فى تمثيل دورها , لكن بعد أن تحولت السلاسل الذهبية التى كانت ترتديها أثناء التمثيل إلى سلاسل من القصدير , وتحول تاج هارون الرشيد إلى قطعة من الورق المفضض , وتهاوى عالم الخيال الباذخ , وظهور الحقيقة فى العتمة  , لقد انتهت المسرحية , انتهت اللعبة , وستعود الصبية إلى شق الحائط من جديد , وهنا يبرز دور الأم التى تشعر بمسئوليتها الجديدة وفداحتها , فترحمت على أيام زمان , ودعت الله أن يحمى بنتيها من زمن التطلعات

وأن يساعدها فى أن تعبر بهما من الممر الضيق بسلام .

المسئولية عن الذات

——————–

وفى قصتها ” الشيخوخة ” تبرز شخصية أم تحاول العبور من ممر ضيق  فهى تشعر بعد وفاة زوجها , وزواج ابنتها أن دورها قد انتهى فى الحياة , وأن وجودها لم يعد يلزم أحدا , ومن هنا تبدأ تقنيات الكاتبة فى التعبير عن ذلك , من خلال بطلتها التى تكتب ثلاثة أنواع من الرسائل , رسائل لا بد أن لا يطلع عليها إنسان , ورسائل تود أن ترسلها إلى ابنتها حنان وهى رسائل أقسى من أن تُرسل , ورسائل موجهة للذات وغير موجهة لأحد , وبهذه الحيلة الفنية أحكمت الكاتبة قبضتها على مأساة بطلتها , فهى جد وحيدة , ولا نجاة لها , لكنها تفاجىء القارىء بحدث درامى يتنامى إذ تلقى المرأة برسائلها التى لا ينبغى أن يطلع عليها أحد لابنتها حنان بعد عودتها من السفر , حيث تتطور القصة وتتعقد فتعيد ابنتها الرسائل دون أن تستطيع أن تكمل قراءتها , وهنا تزداد معاناة الأم التى تشعر بالوحدة , وأن الجميع يقول لها شكرا , لقد أديت المهمة بنجاح فاتركى خشبة المسرح وهى هنا رمز للحياة .

و يطل البعد العام أيضا فى هذه القصة فالإبنة تعانى جراء فقد رفاقها فى حرب 67 , ولها حزنها الخاص والعام الذى انكفأت ترعى زهوره .

 وتأتى معاناة الأم لتزيدها ألما , فتقول لها الأم : ” لقد أورثنى استشهاد الرفاق فى الأربعينيات فى المظاهرات وفى السجون الشعور بالإمتداد إلى المستقبل “

ثم تخرج  من أصدافها لآلىء حكمتها ” الإحباط العام هو الذى يُورث قصر العمر لا الإستشهاد ” .

وتحقق الكاتبة رسالتها الفنية من خلال تقنية أخرى مهمة هى تقنية الحلم فتصف وتفسر معاناة الأم بطلتها الرئيسة فتقول : ” الطيور السوداء هى قطعا طيورى بمدى ماهى طيور أحمد ( الزوج المتوفى ) , الخوف من الفقد , من الموت  , و أحمد الذى فقدته مرتين , يوم انسلخ عنى عاطفيا  قبل أن يموت بسنين , ويوم مات قبل أن أستكمل معركتى المستميتة لاستعادة المستحيل , موتى أنا “

لكنى لم أنخرط فى الشيخوخة إلى حد الخوف من الموت .

وتوشك الأم ان تقبل الزواج من “سمير” تحت وطأة معاناتها فهى تريد أن تجد إنسانا واحدا يحتاج إليها , لكنها تأبى ذلك فهى لم تشعر يوما بعاطفة ما نحوه , وهنا تبدأ فى الكتابة التى هى دائما وسيلة لكشف الذات ومواجهتها , وتحاسب نفسها كيف واتتها الجرأة أن تُعذب ابنتها برسائلها التى لم يكن ينبغى لحد الاطلاع عليها , كيف أملت عليها جحيمها الداخلى

أكانت قسوة أم استغاثة مستميتة لغريق ؟

وهنا يتبدى لنا الصراع الداخلى لبطلتها الأم فى أعمق صوره , وتتجلى الطيور السوداء التى هى خفايا النفس الإنسانية التى ترقد طبقة فوق طبقة

فى أغوار اللاوعى , وهنا تجاذب الأم ابنتها أحبال الصراع الدرامى , البنت تأبى جذب الأحبال وتنأى بنفسها عن احتمال ما لاتستطيع تحمله , وزوج ابنتها  يصيح  “الاعتماد على الآخر بالكامل غلط .. غلط .. غلط , مشيرا إلى أن هذا كان درسهما الأول الذى أفاداه منها لإنجاح علاقته الزوجية مع ابنتها , وما كانت هى تنصح به ابنتها فلماذا لا تطبقه فى حياتها الآن ؟ .

وهنا ترتد الأم إلى ذاتها العميقة فتقول وهى تعدو لترفع سماعة الهاتف مشتاقة إلى التواصل مع الآخر ( المتصل ) : ” أصارع لأتقدم فى الردهة والطيور السوداء تعلق بساقى , ببطنى , بصدرى تفوق حركتى و حنان تصرخ غلط , وهشام زوجها يصرخ غلط , والكلمات تتشكل فى عقلى ولا أصرخ , تلتصق صور الطيور كالخفافيش بوجهى , أهشها بشراسة لتعود

ونداء التليفون يلح ” .

وبعد أن تصل الأم إلى ذروة صراعها مع الذات تصل إلى حقيقة معاناتها

وتكشف لقارئها عن الوله بالحياة , المادة الأساسية للعيش والفن فتقول :

” كنت كالمحبة المهجورة , تتخبط بين التهديد الأجوف , والرجاء العقيم ,

قدرات الإنسان على التجاوز هى معقله الأخير ” .

وتتكشف أسرار حياتها الداخلية لعينيها وتمسها بيديها جرحا نازفا فتقول

” ليس من السهل أن يتوصل الإنسان لحقيقة أن ما سماه حُبا كان ضياعا

وما سماه عطاء كان فناء فى الآخر ووأدا للذات ” .

وتلتمع رؤيتها لتشكل بابا مفتوحا على الحياة نفسها فتقول ” الشيخوخة حالة وليست مرحلة من مراحل العمر , لا يشيخ الإنسان إلا إذا فقد قدراته العقلية أو جانبا من هذه القدرات , الإنسان لا يشيخ طالما ظل عقله يضفى على وجوده المعنى , يغنيه بهذا الوهج المتواصل , الذى لا يشتعل فجأة ويخمد , بل يُدفىء ولا يُحرق ” .

الرسالة

———-

وتبدو قصتها ” الرسالة ” امتدادا لهذا العالم الأثير فى مخاطبة الذات وتحقيقها , فهى قصة فتاة تريد أن تكتب رسالة لرجل تحبه , تريد أن تكتب له أنها تريد أن تراه , وتتبدى أمامها عقبات الخجل , والخوف من أن تقع الرسالة فى يد أحد , والرهبة من انطباع الرجل عنها , لكنها تصارع كل ذلك وتقاومه , وتبدأ فى كتابة رسالة مختلفة تحرر الذات من الداخل ومن قيود المجتمع فتقول : ” الزمن فى صفى وخيالى , وقد تكون أنت غدا , وقد يكون غيرك , وإن لم أجد من أنسج حوله أسطورتى أصنعه , يتحتم على الرافض للحياة أن يعيش , وأسطورة تسلمه إلى أسطورة حتى يطبق عينيه على الربيع الدائم ” .

حبها الأول

———–

وهذا الربيع الدائم هو الذى استطاعت بطلتها أن تحققه فى قصة ” حبها الأول ” , فلقد عاد المحب بعد سفر طال ليجدها قد تزوجت , وانفصلت عن زوجها , تحمل هى مرارة تجربة تخليه عنها بالسفر إلى الخارج لتحقيق أحلامه العملية , ومرارة فشل زواجها لكنها تنتصر للحب وتفاجىء الكاتبة القارىء بتناقضات الذات الموارة بالانفعالات والمشاعر

فتقول : ” أدرك أن شيئا من الماضى لن يخل بالتوازن الذى توصلت إليه

بالبركان الذى أحلته حجرا خامدا لأستمر واقفة على قدمى , أسترخى الآن

وعلى فمى بسمتى الودودة الخجلة , أحاول بلا جدوى أن أوقف هذا السيل الجارف من العاطفة الذى يمطرنى ” .

الخروج من الشرنقة

——————–

وتخرج بطلتها من قوقعتها ” من عينى تنسال الآن الدموع التى تحجرت , كحصى الملح فى عينى المرأة فى الثامنة والثلاثين , ومرآة السيارة تصفعها بوجه مليح , قُد من صخر , الكبرياء المُر , من الألم وحتمية تجاوزه , من رفض مراهق للحياة , ونسبية الأشياء , من تعلق مغترب بكمال دنيا غير الدنيا , من تشبث مجنون بالسبل المسدودة حتى الاختناق

ومن عمى عن الباب المفتوح “

وتنهى هذا الصراع بنجاح بطلتها  فى التجاوز والحصول على حقها فى الحياة ” تأتى علىّ أن أطلق سراح الصبية لأفلت بحياتى من بين ضفتىّ

باب مغلق ” , ” أحيا الصبية من جديد , وأنا الآن هى , كيانى وهج

وجسدى وهج يشع يزغرد بتشوقات الصبية المكتومة , التى لم تعد

مكتومة ” .

تنهدت ارتياحا وهى تعبر بكهولتها ما مضى من عمرها إلى ماهو آت .

وهنا تكون قد عبرت لطيفة الزيات بقارئها إلى الربيع الدائم , إلى تحقق الذات التى هى جزء من مجتمع , فى تحرر الفرد وسعادته تحرر للمجتمع

وتحققه , وتكون فى الوقت نفسه قد وضعت يدها على المادة الحقيقية للفن وهى الولع بالحياة .

سمير الفيل

لطيفة الزيات.. أستاذتنا في السياسة والكتابة..

بنت دمياط التي قادت العمل النضالي في شبابها..

رؤية : سمير الفيل.

1

عرفت لطيفة الزيات من خلال كتبها التي كانت منتشرة في ذلك الوقت الذي فتحنا فيه أعيننا على قراءة صفحات من تاريخ مصر الوطني، وما يتردد في اوساط اليسار من رموز سياسية مستنيرة .

كانت  خلال فترة دراستها بكلية الآداب جامعة القاهرة قد انتخبت سكرتيرا عاما للجنة الوطنية للطلبة والعمال عام 1946، وخاضت اللجنة كفاحا حقيقيا ضد الاحتلال البريطاني الذي كان يجثم على صدر البلاد.

كما عالجت الشأن الاجتماعي من خلال روايتها ” الباب المفتوح” الذي تحول إلى فيلم سينمائي   عام 1960 ، وقدمت فيه شخصية ليلى ( فاتن حمامة) وعلاقتها العاطفية المرتبكة ، وكيف تحررت نهائيا ، وفتحت الباب المغلق لتعلن بكل صدق وشفافية انعتاقها من ربقة الماضي وقيوده الأليمة.

2

حدث في العام 1976 أن اعلن عن انتخابات مجلس الأمة ، وخاض شقيقها محمد عبدالسلام الزيات الانتخاب ضد مرشح الحكومة حينذاك ( حمدي عاشور) ، وفي نفس الدورة رشح المناضل العمالي علي زهران ضد اثنين من اقطاب العمل السياسي المحسوبين على السلطة ، وهما علي بصل وحسن شوشة.

وجدتني منحازا لكي أقف في صف الزيات الذي كان يذهب للقرى والمراكز ليلتقي بأهل الدائرة ، فيقدمني كي القي قصيدة قبل أن يتكلم وكان خطيبا مفوها ، قادرا على اجتذاب الجماهير لأفكاره التقدمية.

في هذا التوقيت كنت قد قضيت فترة معلما للمرحلة الابتدائية ( منذ العام 71) وكانت كل صباح تأتي إشارة تليفونية للمدرسة من إدارة المديرية تطالبني بالاعتدال في المعركة الانتخابية ، ويطلب مني الناظر  الأستاذ عبدالرازق الشهاوي التوقيع عما ورد ، فأفعل وفي المساء أكون على راس الحملة المتوجهة لقرية جديدة.( في هذا الشأن اتذكر قصيدة بعنوان رسالة لشعب دمياط. كتبها الشاعر سمير عبدالباقي).

في يوم طلب مني الأستاذ محمد عبدالسلام الزيات الذهاب  لشقيقته الدكتورة لطيفة الزيات كي أحضر من فيلتها البسيطة  بالدقي ” النشرات الانتخابية” فوافقت . كنت غريبا عن القاهرة لكنني توصلت للعنوان بسهولة ، طرقت الباب ففتحت لي الدكتورة الباب بنفسها ، عرفتها بنفسي ، فسلمت عليّ بحرارة ، وصممت أن أتناول معها فنجان شاي، ولما علمت أنني أكتب الشعرـ وقتها ـ استمعت لي بإنصات، وقالت: ” في شعرك قص ” .. ناقشتني في بعض القضايا، وكانت بالنسبة لي أقرب للمعلم .

استرعى انتباهي مكتبتها الضخمة باللغتين العربية والإنجليزية، مدت يدها بكتاب لها ثم وضعت عليه إهداء رقيق .حدثتها عن إعجابي بالفيلم الذي شاهدته مرارا وتكرارا ، فنصحتني بقراءة الرواية.

محمد عبدالسلام الزيات

محمد عبدالسلام الزيات

3

 حسب المراقبين ، كان الرئيس السادات يحمل كرها شديدا للزيات ، لا أعرف سببه، وقد كلف جريدة” الأخبار” بعمل حملات  ضخمة لتنفير الناس منه، كانت تنشر بالصفحة الأولى ، وشن موسى صبري رئيس التحرير حملة قوية ضد خصم السادات العنيد .

جاءت الدكتورة لطيفة الزيات مدينة دمياط ، لتعضد موقف شقيقها فوقفت على مسرح قصر ثقافة دمياط ( نوفمبر 1976 ) كي ترتجل خطابا في غاية الأهمية، منددة بالتراجع والنكوص والتخاذل ، ومشيدة بكفاح الشعب المصري ، ضاربة الأمثلة من صفحات التاريخ، لقد ارتجت القاعة بالتصفيق ، وبعد انتهاء كلمتها حملها زميل لنا بالثقافة فوق الاعناق ( هو الأستاذ طه زقزوق ) هاتفا بالحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي . أتصور انها من المرات القلائل التي رأيت فيها  المرأة حاضرة بقوة في منافسة بين اتجاهين ، لتنتصر للجانب الأرقى .

 كانت العداوة واضحة وهناك رغبة من السلطة وقتها وتعمد لإسقاط الزيات ـ وكان رمزه الانتخابي السلم ـ والتيار الذي يمثله.

أتذكر أن الموقف الشعبي كان على النقيض ، فحين ذهب الزيات إلى قرية ” الشعراء ” ـ بلد فاروق شوشة ـ  أتوا بسلم من الخشب عال جدا ، وجعلوا المرشح يصعده والناس تهتف” علم. . علم. على السلم” ووقف مثقفي المدينة مع الزيات. وكادت الجولة تحسم لصالح ممثل اليسار ( منبر اليسار وقتها ) غير ان اقلام حمراء تسللت للجان بعينها تسببت في إلغاء صناديق بالكامل.

بعد نجاح مرشح الحكومة تم إبعاد ثلاثة مدرسين عن التدريس كنت واحدا منهم، قضينا سنة كاملة في ظلمة وتكدس المكاتب الحكومية ، ومطاردة البصاصين . كان مكتوب في قرار الإبعاد” للصالح العام” وكان النقل قبل بداية العام الدراسي بيوم كامل.

4

في السنة التالية فزت بجائزة القوات المسلحة في القصة القصيرة عن ” ادب الحرب” وقد رأيت أن أزور الدكتورة لطيفة الزيات في فيلتها ، وقد طلبت مني  أن أتحدث عن الواقع الثقافي بدمياط، وكانت تعرف من كتاب المدينة كل من: يوسف القط، وحسين البلتاجي ، كما أشارت إلى مصطفى الأسمر.

كانت إدارة الشئون المعنوية قد أعدت لنا حفلا تكريميا بنادي الضباط بالزمالك فأوصلتني أنا ورفيق رحلتي محمود حسونة إلى هناك بسيارتها، وأبدت سعادتها لوجود أدباء جدد في البلد الذي تنتمي إليه.

وربما اتذكر أن أجواء الصراع بين السادات مع خصومه قد بلغت ذروتها حين أعد جهاز أمن الدولة قضية ملفقة باسم حركي هو” التفاحة” للإيقاع بالأستاذ الزيات الذي كان يشغل في هذا التوقيت منصب مسؤول جمعية الصداقة المصرية السوفيتية. وتم إلقاء القبض عليه فعلا وانقذته الظروف من مصير مظلم ( أظن أن اغتيال الرئيس في 6 أكتوبر 1981 قد خلصه من المأزق). .

5

بسبب هذه العلاقة الوثيقة التي ربطتني بالدكتورة الجليلة، قرأت لها أغلب أعمالها: ” الشيخوخة وقصص أخرى “، ” الرجل الذي عرف تهمته “، ” حملة تفتيش . أوراق شخصية” ، وهي مجموعات قصصية وإن كانت الأخيرة سيرة ذاتية، ثم مسرحية” بيع وشرا” 1994 ، ” ورواية” صاحب البيت”  1994.

في سيرتها الذاتية تتحدث بشجاعة ووضوح عن اللحظة التي قررت فيها فك الارتباط مع زوجها الدكتور رشاد رشيدي، الذي كان يشايع اليمين بينما هي على الطرف النقيض وقد تحدثت بمنتهى الشجاعة عن السبب الذي جعلها تقع في هواه.

 كما أتذكر وصفها لتلك المحنة التي عاشتها وشقيقها ـ أظن أنه  ” عبدالفتاح” ـ يحتضر في الحجرة المجاورة لحجرتها.

لم يكن بمستغرب عنها أن تواصل انحيازها للحس الوطني والانتماء للأفكار الثورية حين واصلت ما انقطع من سيرتها العطرة برئاستها لجنة الدفاع عن الثقافة القومية ، وهي اللجنة التي انبثقت لتعميق موقف المثقفين المصريين من إتفاقية ” كامب ديفيد ” كما وضعت وزملاء لها ” أدبيات رفض  التطبيع الثقافي مع إسرائيل ” الأمر الذي جعلها تخضع لعملية الاعتقال والتحفظ عام 1981م بقرار من  الرئيس أنور السادات، وأظنها التجربة التي جعلتها تكتب سيرتها  الذاتية “حملة تفتيش ” في هذا الوقت الدقيق من حياتها .

6

كنت في زيارة عابرة للقاهرة، وفي ميدان” طلعت حرب” وقرب مرسم لفنان تشكيلي مصري، وجدتها في الرصيف المقابل، فخطوت للترحيب بها، وكان معي عدد من أدباء دمياط الشباب، فرحت بنا جدا، وعرفتنا على صديق كان بجوارها هو الأستاذ حلمي شعراوي، وعرفته بأنه أحد المثقفين المهتمين بالشأن الأفريقي.

حلمي شعراوي

حلمي شعراوي

لطيفة الزيات ( المولودة في الثامن من أغسطس 1923م ) ، من عائلة ثرية تنتمي لقرية” شرباص ” إحدى قرى مركز ” فارسكور” وعلى ذكر القرية، فان الدكتور محمد حسن الزيات ( وزير خارجية مصر الأسبق) هو ابن عم لها، وقد سبق له خوض الانتخابات، ومن ذكرياتي أنه قد أتى ليسانده من المنيا الدكتور عبدالحميد ابراهيم. وحدث أن حضرت في السرادق المقام بسوق الحسبة وكنت أعرفه جيدا، فهو يدعو لنظرية” الوسطية” وكان على صلة بأسرة الزيات حيث أنه ـ أي الزيات ـ مقترن بابنة طاها حسين السيدة أمينة. حين انتهى الزيات من عرض برنامجه الانتخابي وانفض السرادق ، حدث هرج ومرج وقدمت التحية للدكتور عبدالحميد ابراهيم لكنني لم أتمكن وسط الزحام من استضافته .

المهم أنه بعد أكثر من دورة أسقطه كمال خالد ( أبو خشبة ). وعموما فالانتخابات لعبة سياسية غير نظيفة على إطلاقها.

أعود للدكتورة لطيفة الزيات، التي أعرف قيمتها، فأجدني أحرص من وقت إلى آخر على قراءة كتابها النقدي المهم ” نجيب محفوظ : الصورة والمثال ” (مقالات نقدية) (1989)، وهو من الكتب العمدة في المجال النقدي كما أعتقد.

وقدمت في مجال الترجمة كتبا مهمة من بينها : ” مقالات نقدية، ت. س. اليوت ” (1962) ، ” حول الفن: رؤية ماركسية ” ( 1994).

7

حصلت لطيفة الزيات على جائزة الدولة التقديرية للأدب عام 1996، وقد ظلت تعمل في الحقل الذي اختارته : التعليم الجامعي ، بعد حصولها على درجة الليسانس في اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة ، 1946. بدأت عملها الجامعي عام 1952 حيث درّست في كلية البنات جامعة عين شمس ، وحازت على الدكتوراه في الأدب من كلية الآداب بجامعة القاهرة 1957 ،  ووصلت إلى درجة أستاذ في النقد الإنجليزي 1972. ظلت لفترة رئيسة قسم النقد والأدب المسرحي بمعهد الفنون المسرحية ، عام 1970 – 1972، ثم عملت مديراً لأكاديمية الفنون منذ عام 1972 – 1973.

رحلت الدكتورة لطيفة الزيات عن عالمنا في 11 سبتمبر 1996م تاركة خلفها صفحات مشرقة من تاريخ نضالي عظيم، لتضرب المثل في كون المرأة المصرية المعاصرة ، قادرة على القيادة وحمل رايات التحرر الوطني ، والحرية والاستقلال ، والاهتمام بالشأن العام ، في كل حين .

117721919_3308146169252156_8727515527430405576_n

” لطيفة الزيات وصور المرأة المتحركة”

زينب العسال تكتب عن تفاعل الأنواع الأدبية والتقنيات السردية وتداخل السيرة الذاتية والأدبية

محمد أبو زيد

نقلا عن مجلة الشرق الأوسط

على الرغم من كثرة الكتابات النقدية التي تناولت الاعمال الابداعية للطيفة الزيات بالنقد والدراسة والتي اضاءت الشكل أو اللاشكل التقني لفنية ابداعاتها، الا ان كتاب «تفاعل الانواع في أدب لطيفة الزيات» للناقدة زينب العسال، والصادر حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية يتميز بأنه يتناول تفاعل الانواع الادبية في ابداعات الزيات أو ما عرفه ايجيلتون بأنه «النص القابل للكتابة، وعادة ما يكون حداثيا ليس له معنى محدد، ولا مدلولات مستقرة لكنه نسيج محبوك من الشفرات ونتف الشفرات».

ومن آليات التفاعل التي ترصدها زينب العسال داخل البنية النصية في أعمال لطيفة الزيات، السرد والحوار، واللغة، والمكان. وتستشهد برواية «الباب المفتوح» حيث تبدأ الرواية من مشهد يحدث في ميدان الاسماعيلية لينتهي السرد في مدينة بورسعيد. وعلى مدى عشر سنوات، وهو الاطار الزمني الذي تتحرك فيه الرواية، تؤكد على وجود مستويين فيها الاول: ملحمي وثائقي شعبي عام، والثاني اشبه بوحدات سردية صغرى تشكل الذاتي والفردي بحيث يتقاطع المستوى الزمني الحكائي التخيلي مع الزمن التسجيلي في الوقت الذي يتشكل فيه المكان عبر مستويين داخلي وخارجي.

وتمثل الشخصيات في رواية الباب المفتوح ـ كما تشير الناقدة ـ ركيزة مهمة داخل الفضاء النصي بمكونيه المكاني والزماني. وكعادة لطيفة الزيات فانها تسند الشخصية الرئيسية في الرواية لامرأة يتتبعها السرد منذ كانت طفلة صغيرة تحيا وسط متغيرات اجتماعية وتاريخية ولكنها تحاول المحافظة بكل السبل على التقاليد، وهو منظور ما يزال يعكسه الخطاب الروائي العربي من هذا المنظور بعد سنوات من نضال المرأة. وتتناول الناقدة زينب العسال مجموعة «الشيخوخة» في هذا الاطار، وتعتبر قصص «الممر الضيق» و«الصورة» مثالا صادقا للكتابة النسوية. وعلى الرغم من ذلك، كما تضيف، فان قصص المجموعة ككل يوحد بينها التناغم. فالسرد ينتقل من الخاص الى العام من دون ادنى فجوات، بل يتلاحم فيه الخاص بالعام في اكثر من مستوى سردي. ويرجع ذلك الى التداعيات الحرة التي تشير بوضوح الى سيرة الكاتبة ذاتها.

ومن التقنيات القصصية البارزة في هذه المجموعة القصصية تقنية التضمين، واتساع المدة الزمنية مع مراعاة أن هذا الزمن ليس خطيا تصاعديا، بل هو زمن ملتف حول توابع سردية ويتقاطع مع ازمنة اخرى تؤدي الى تعميق إغواء الشخصيات في صراعها بين المطلق والممكن، وبين الفناء في الاخر والرغبة في الاستقلال الذي يقترن بالصراع بين الحياة والموت، وكذلك تقنية المونتاج التي لعبت دورا هاما في حرية التنقل والاختيار. إنها، بكلمة أخرى، تستبعد ما لا تريده، ولا تلتزم بالوحدة الزمنية والمكانية، بل تلعب على تقنية الفلاش باك، وتيار الوعي.

* السيرة والرواية

* تقسم الناقدة رواية «حملة تفتيش» للطيفة الزيات الى جزءين، الاول بداية سيرة ذاتية لم تكتمل تتناول سنوات تشكل الوعي، ثم مرحلة منتصف العمر. والثاني يتكون من اوراق كتبتها الزيات وهي في سجن النساء عام، 1981 تدور حول تجربة السجن وتتخلق من جديد حول منتصف العمر بمنظور جديد تبلور في ضوء تجربة السجن.

وترى العسال ان ثنائية الخارج والداخل في «حملة تفتيش» اثرت كثيرا في كتابة نص ينتمي الى السيرة الروائية لكنه دائم الانفلات من تلك الصيغة التقليدية بكتابة السيرة. فالزيات تكتب للبحث عن هويتها بالمعنى الكلاسيكي لمصطلح السيرة الذاتية عن طريق حكيها لفترات من حياتها لا تخضع للمسار التقليدي من الماضي للحاضر أو من فترة لأخرى. فالوعي بالحاضر هو المحرك الاول لاسترجاع لحظات ومواقف من ماض لا تتسم ابدا بالثبات، لكنها دائمة التحرك داخل وعي الكاتبة مشكلة بذلك البنية السردية للسيرة، اذ أن النص يدور في فلك الحاضر مستحضرا الماضي لتنتهي الرواية وقد انتظمت الاوراق بالفعل. في حين لم يكن الامر كذلك في البداية حيث تتداخل مراحل العمر في «الاوراق» على شكل شذرات تصور الانا في مواقع وادوار مختلفة، لأن الهم الاول هو رصد تحولات الانا وهي في سبيلها للتحقق. من هنا، لا تعبأ الكاتبة ابدا بالتتابع الزمني بل تقيم انساقا اكثر ملاءمة لتلك الرحلة الداخلية.

وتلاحظ العسال ان غالبية اعمال لطيفة الزيات تحفل بالمونولوج حتى في عملها المسرحي الوحيد «بيع وشرا» الذي يعتمد على الديالوج. فقد كان للمونولوج دوره في تقديم الشخصية وتنامي الحدث، الامر الذي ادى الى ارتفاع اللغة الشعرية في المسرحية التي تمثل رؤية مضادة بجانب الرؤية السائدة. ولا تكتفي اللغة برصد الحركة الخارجية زمنية كانت أم مكانية، بل تتخطى كل ذلك لتكشف عن لا وعي الشخصية وادراكها ما تمر به من مآزق وغالبا ما نسمع صوت الشخصية معلقا على الاحداث ومحللا لها، متداخلاً مع بنية الحلم ذات الطبيعة اللغوية الخاصة الكثيفة الرموز. وتتناول الناقدة تفاعل الانواع في أدب لطيفة الزيات عبر استعمالها العديد من الاشكال الابداعية، كالقصة والرواية ورواية السيرة الذاتية، والقصة القصيرة الطويلة، وقصص تيار الوعي مستعينة بتحليل عناصر السرد والحوار واللغة والمكان.

وتصل المؤلفة إلى استنتاج أن تفاعل هذه الأنواع أصبح سمة أصيلة في الأعمال الأدبية التي تنسف حدود النوع الأدبي، بارتكازها على جدلية حوارية تتداخل فيها مستويات الحياة على المستوى الذاتي والاجتماعي، محملة إياها برؤيتها السياسية والإجتماعية.

ماهر حسن

لطيفة الزيات و«بابها المفتوح»

ماهر حسن

 

تعلقت الدكتورة لطيفة الزيات بالماركسية وهى طالبة بكلية الآداب، وقالت عن هذا: «كان تعلقى بالماركسية انفعاليا عاطفيا»، ومع هذا كان أول مشروع ارتباط لها مع عبدالحميد الكاتب، ولم يكن ماركسيا، وكان يمضى جزءًا كبيرًا من نهاره وليله فى المسجد، ارتبط الاثنان بخاتم الخطوبة ولم يقدر لهذا المشروع أن يتم ولكن لطيفة تركت آثارها على نفسية عبدالحميد الكاتب، وقد اعترف بهذا فى مقال فى الصفحة الأخيرة من «أخباراليوم» تحت عنوان (خاتم الخطوبة)، ثم دخلت تجربة ثانية أكثر تواؤما مع قناعاتها فارتبطت بالزواج بأحمد شكرى سالم، وهو أول شيوعى يحكم عليه بالسجن سبع سنوات وتم اعتقالهما فى 1949 فى القضية الشيوعية وانفصلا بالطلاق بعدالحكم على شكرى وخروجها من القضية. ثم كانت قمة التناقض بين اليسار واليمين بزواجها من الدكتور رشاد رشدى اليمينى المنشأ والقناعة ولم تتردد وقالت لمعارضى هذا الزواج (إنه أول رجل يوقظ الأنثى فىّ)، وعندما اشتدواعليها باللوم قالت: (الجنس أسقط الإمبراطورية الرومانية).

تاريخ لطيفة زاخر بمواقفها الوطنية، وكانت لها وجهة نظر مستقلة فى الزواج، رفضت أسلوب الزواج التقليدى عن طريق الخاطبة أو عن طريق صديقات الأسرة، كانت دائمًا تتحدث عن مظاهرات الطالبات ضد الاحتلال وشاركت فى المظاهرات الطلابية، وقد رأى البعض أن الكثير من الملامح الإنسانية لسيرتها منذ شبابها تبدو فيما كتبته فى عملها الأول الباب المفتوح عام 1960 والتى تحولت إلى فيلم بطولة فاتن حمامة ومحمود مرسى وصالح سليم إخراج هنرى بركات، ورأوا فى وصفها لليلى أنه قريب لوصف نفسها. دخلت لطيفة الزيات اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال، إثر تنحى المناضل الماركسى سعد زهران عن موقعه فى اللجنة كممثل لأحد التنظيمات الماركسية، لإتاحة الفرصة للطيفة الزيات وتشجعًا للطالبات فى الكفاح الوطنى، وظلت لطيفة الزيات فى اللجنة لفترة محدودة لأن اللجنة نفسها عاشت مدة وجيزة من 17 إلى 19 فبراير 1946 وكانت اللجنة قد تأسست للتنسيق بين حركة الطلاب وحركة الطبقة العاملة ونشأت اللجنة بدعم أساسى من اللجنة التنفيذية العليا للطلبة التى كانت وفدية بقيادة مصطفى موسى، وكانت قد أعلنت فى ديسمبر عام 1945 وتوحدت جهود لجنة الطلبة الوفديين مع ممثلين لحلقات ماركسية ثلاث هى: (الفجر الجديد) التى كانت تؤمن بقيادة الوفد للحركة الوطنية وتنظيم (أسكرا- الشرارة) و(الحركة المصرية للتحرر الوطنى- حدتو) وانتهت اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال على يد إسماعيل صدقى فى 11 يوليو عام 1946 بعد فترة وجيزة من تكوينها (ستة أشهر). ومما يذكر أنه فى مناخ اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال ظهر النشاط السياسى للطيفة الزيات. ثم نشأت العلاقة مع عبدالحميد عبدالغنى، وكان نموذجًا مختلفًا عن نموذج لطيفة، ومما يذكر أيضا أنه كان زميلًا للويس عوض (الدكتور لويس عوض فيما بعد) بالتعليم الثانوى بمدرسة المنيا الثانوية وكانا يكتبان بجريدة محلية بالمنيا، لويس يوقع مقالاته بـ«العقاد الصغير»، إذ نشأ معجبًا بعباس محمود العقاد كاتب الوفد الجبار، وتأثر لويس بوالده حنا خليف عوض الوفدى، المحب لسعد زغلول باشا، وكان عبدالحميد يكتب بتوقيع عبدالحميد الكاتب، وهو الاسم الذى ظل ملازما له، وارتبط بالخطبة مع لطيفة وكانت ماركسية ولها جاذبية فى الحديث والشكل، ولكن عبدالحميد كانت له طبيعة مختلفة، الدين فى وجدانه والسلوك الدينى طابع له، يصلى الفروض المختلفة ملازما لمسجد السيدة زينب أو مسجد السيدة نفيسة، وقد كتب يقول: «افترقنا.. لأنها لم تستجب لتخفيف ميولها الماركسية»، ولم يستجب هو لتخفيف سلوكه المخالف للماركسية. وقد رجح الكاتب أن عاملًا آخر هو أن علاقتها مع زميلها أحمد شكرى سالم كانت وراء عدم إتمام الارتباط. أما أحمد شكرى سالم فكان من جيل المثقفين الماركسيين مع شهدى عطية الشافعى وعبدالمعبود الجبيلى وأنور إسكندر عبدالملك ومحمد سيد أحمد، وكان من أوائل الشيوعيين المصريين فى الفترة الحديثة وصدر الحكم عليه بالسجن 7 سنوات 1949- 1956، وتزوج من لطيفة الزيات قبل أن يقبض عليه وطلقها بعد أن حُكم عليه، وداخل السجن خفف من ارتباطه التنظيمى بمجموعته اليسارية، ولكنه لم يخفف من تعلقه بلطيفة. وكان يقول كلما جاء ذكرها: دى لطيفة!!). ثم يجىء الحديث عن الرجل الذى أسقط الإمبراطورية الرومانية الدكتور رشاد رشدى الكاتب المسرحى والأستاذ الجامعى، الذى أصبح مستشارًا ثقافيًا للرئيس السادات، هذا الزواج أصابها بالتمزق بين أنوثتها التى فجرها الدكتور وحرصها على أن تبقى ماركسية حنى لو كانت ماركسية مسخسخة، حسب وصف الدكتور لويس عوض لها فى كتابه (دليل الرجل الذكى). خاضت انتخابات اتحاد الكتاب وفازت بعضوية مجلس الاتحاد، واختيرت عضوا بمجلس السلام العالمى، وعضوا بلجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، كما أشرفت على الملحق الأدبى لمجلة الطليعة بمؤسسة الأهرام وحصلت على درجة الأستاذية عام 1972م، ورأست قسم النقد الأدبى والمسرحى بمعهد الفنون المسرحية، ولم تنكر أن زواجها من رشاد رشدى كان خيرًا وبركة وفترة ازدهار لها فى الدراسة وفى العمل وفى العلاقات الزوجية، رغم أن هذا الزواج جر عليها النقد الحاد القاسى من رفاقها القدامى الذين كان يؤلمهم زواج اليسار باليمين، وقد حرصت على أن تحتفظ بصورتها الماركسية ولو للذكرى والتاريخ وتم اعتقالها فى سبتمبر 1981 وتم الإفراج عنها فى 13 يناير 1982. ولها ستة مؤلفات إبداعية هى: رواية الباب المفتوح، الشيخوخة، حملة تفتيش، وهى سيرة ذاتية ومسرحية، بيع وشراء، رواية صاحبة البيت، رواية الرجل الذى عرفته. بقى القول إن لطيفة الزيات وُلدت فى دمياط فى 8 أغسطس 1923، ورحلت فى 11 سبتمبر 1996.

لطيفة

لطيفة الزيات سيرة ذاتية

لطيفة الزيات (1923 – 1996)

روائية ، وأديبة وناقدة , أولت اهتماماً خاصاً لشئون المرأة وقضاياها. ولدت لطيفة الزيات، في مدينة دمياط بمصر، في 8 أغسطس، عام 1923،في مدينة دمياط (مصر), وتلقت تعليمها بالمدارس المصرية، ثم بجامعة القاهرة. بدأت عملها الجامعي منذ عام 1952, وحصلت على دكتوراه في الأدب من كلية الآداب، بجامعة القاهرة عام 1957.


شغلت مناصب عديدة، فقد انتخبت عام 1946، وهي طالبة، أميناً عاماً للجنة الوطنية للطلبة والعمال، التي شاركت فى حركة الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني. تولت رئاسة قسم اللغة الإنكليزية وآدابها خلال عام 1952، إضافة إلى رئاسة قسم النقد بمعهد الفنون المسرحية، وعملها مديراً لأكاديمية الفنون. كما شغلت منصب مدير ثقافة الطفل، رئيس قسم النقد المسرحي بمعهد الفنون المسرحية 1970 – 1972، ومديرة أكاديمية الفنون 1972 – 1973.


كانت لطيفة عضو مجلس السلام العالمي، وعضو شرف اتحاد الكتاب الفلسطيني، وعضو بالمجلس الأعلى للآداب والفنون، وعضو لجان جوائز الدولة التشجيعية في مجال القصة، ولجنة القصة القصيرة والرواية. كما أنها كانت عضوا منتخبا في أول مجلس لاتحاد الكتاب المصريين، ورئيس للجنة الدفاع عن القضايا القومية 1979، ومثلت مصر في العديد من المؤتمرات العالمية.


أشرفت على إصدار وتحرير الملحق الأدبي لمجلة الطليعة ، ونالت لطيفة الزيات الجائزة الدولية التقديرية في الآداب عام 1996.
 

ومثلما اهتمت لطيفة الزيات بالعمل الثقافي, كان لها اهتمام بالعمل السياسي العام, فانتخبت -وهي طالبة- عام 1946 أمينًا عامّا للجنة الوطنية للطلبة والعمال التي قادت حركة الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني.

وفي عام 1979, شاركت في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية وتولت رئاستها.

تابعت الكاتبة الإنتاج الأدبي في مصر بالنقد والتحليل والتقييم, وأولت اهتمامًا خاصّا لشؤون المرأة وقضاياها.

وحصلت على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1996.

تتسم أعمال لطيفة الزيات القصصية والروائية بمعرفة حميمة بالحياة: بالتكوين النفسي للنماذج الإنسانية, وبالتناقضات الاجتماعية التي تتحرك في إطارها وتتفاعل معها.

وفي تلك الأعمال, تعيد الكاتبة إنتاج الواقع الاجتماعي, وتدخل معه في حوار, وتعلن موقفًا إزاءه. 

فضلاً عن عدد من المؤلفات النقدية والمؤلفات الأكاديمية والترجمات,

أشرفت على إصدار وتحرير الملحق الأدبي لمجلة الطليعة ، ونالت لطيفة الزيات الجائزة الدولية التقديرية في الآداب عام 1996.

 

نشر لها العديد من المؤلفات الأكاديمية، والترجمات، كما صدر لها مؤلفات إبداعية، منها:

(الباب المفتوح) (رواية, 1960),

(الشيخوخة وقصص أخرى)

(مجموعة قصصية, 1986),

(حملة تفتيش – أوراق شخصية)

(سيرة ذاتية, 1992),

(بيع وشرا) (مسرحية, 1994),

(صاحب البيت) (رواية, 1994),

(الرجل الذي عرف تهمته) (رواية قصيرة, 1995) .

إضافة إلى أرواج ، النقد الأدبي الإنكليزي والأمريكي ، وساهمت بالكتابة في المجلات الأدبية.

أضف تعليق