ضحى عاصي

أطياف نسوية ناعمة، في القاهرة 104 لـ (ضحى عاصي)

بقلم: سيد الوكيل

 عنوان يبدو غامضًا، فيما تتركنا الرواية بلا أي تفسير له حتى قبيل النهاية. كما أننا، سوف ندرك بعد أن نقطع شوطًا في القراءة، أنها ليست رواية مكان، على نحو ما اعتدنا مع مثل هذه العناوين. هكذا يزداد تشوقنا لفهم دلالة العنوان، لندرك في نهاية الرواية، أنه رقم سيارة دفن الموتى التي أقلت جثمان بطلة الرواية (انشراح) إلى مثواها الأخير.

المشهد الافتتاحي للرواية، يدور في ساحة مسجد عمر مكرم، متوقفًا على نحو تفصيلي أمام طقوس العزاء في الفقيدة انشراح.  عزاء يحضره علية القوم، نجوم المجتمع من الفنانين والسياسيين ورجال الأعمال، فيما يجلس زوجها (الأسطى حسن) منكمشًا في عمق السرادق، مذهولاً مما يدور حوله. كيف يحظى موت زوجته الفقيرة البائسة بكل هذه الأهمية؟ حسن.. عاش مع انشراح ثلاثين عامًا، وهو الآن يعيد اكتشافها بعد موتها. هكذا، سنترك حسن جانبًا، ونبدأ –نحن القراء أيضًا- في التساؤل، من هي انشراح؟ وما أهمية موتها أو حياتها؟

على هذا النحو تباغتنا الرواية بتقنية سردية بسيطة، لكنها كافية لتثير فضول القارئ لكي يعرف المزيد عن حياة امرأة بعد موتها.

لكن إثارة الفضول ليس مجرد حيلة للقبض على القارئ وأسره داخل النص غبر آلية التشويق، وهي أيضًا تقنية تشتغل على الزمن الروائي في مستويات مختلفة. فالزمن لا يتوقف عند حدود الثلاثين عامًا التي عاشها الزوج (حسن) مع (انشراح) لأن حسن سيختفي تقريبًا بعد هذا المشهد، لتنفرد انشراح بمقدرات السرد، وتحكي زمنها الخاص منذ طفولتها. تعلن انشراح عن حضورها بوضوح حتى بعد موتها، كما لو أن السرد هو بعث جديد لها:

 “اسمي انشراح عويضة، هذا المأتم في عمر مكرم هو مأتمي، حسن زوجي في حالة ذهول أو صدمة، لا يفهم شيئا، عشت معه ثلاثين عامًا حتى توفاني الله، وهو لا يفهم شيئًا، ولا يريد أن يفهم شيئًا، إنه حتى لم يفكر يوماً ما أنه يحتاج أن يفهم أي شيء. باختصار.. حسن حمار”

 قد يلفت انتباهنا في المقطع السابق أنه يأتي على لسان انشراح بعد موتها بدون مبرر فني. لكن مساحة الخيال الحر التي منحتها الكاتبة لبطلتها تبرر ذلك. فالرواية برغم ضلوعها في الواقعية الاجتماعية، تتمتع ببعد عجائبي وطاقة روحية كبيرة، إذ تستفيد من العوالم الباراسيكولوجية، ومن غرائبية الواقعية السحرية بنزعتها التراثية. لكنها تظل ذات بعد اجتماعي ونسوي بمعنى أدق. فهي رواية عن امرأة تعرضت منذ طفولتها لكل أسباب التفكك الاجتماعي، والقهر الذكوري،  والتهميش الطبقي. ولم يكن أمامها غير أن تستنفر طاقتها الروحية التي ورثتها عن جدتها، لتواجه قسوة واقعها. هكذا يبدو الموت تحرراً لانشراح كانت تنتظره كل سنوات عمرها، الآن يمكنها أن تعبر عن نفسها، ليبدو وجودها السابق عدماً وعبثاً.

هكذا يتجلى المعنى المعرفي لفاعلية الخيال الروائي، ليصبح واقعًا بديلاً، لا مرئيًا ولكنه محسوس وأكثر صدقا من الواقع المعاش بكل تعدياته ومآسيه.. بهذا المعنى فإن انشراح لا تنتصر على واقعها فحسب، بل تحوله إلى طاقة إيجابية تسهم في تغيير الآخرين وإنقاذهم سواء من واقعهم الاجتماعي أو النفسي، مستعينة بقدرات خاصة على استشراف الآتي، وإدراك اللا مرئي، أو بمعنى أدق إدراك المسكوت عنه في الواقع.

إن أدواتها في تحقيق ذلك تبدو بسيطة وتقليدية، من قبيل: الأحلام والرؤى وقراءة الفنجان والتخاطر مع شخصيات وأرواح بعيدة. لكن هذه الأدوات على بساطتها، كانت مقنعة لكل من اقتربوا منها فآمنوا بقدراتها الخاصة، وكانت كافية لتمنحها قيامة رمزية بعد موتها. صحيح أن المشهد الافتتاحي للرواية، يطلع القارئ على أن ما سوف يقرأه، يخص امرأة ماتت بالفعل، لكن فعل القراءة سيكون بمثابة قيامة لها، لتسرد علينا حكايتها بنفسها، كما أننا لا نستبعد على امرأة امتلكت كل هذه القدرات الروحية في حياتها، أن تخاطبنا من العالم الآخر بعد موتها. 

هذه القيامة السردية لانشراح من الموت، تأتي في مقابل الإطاحة بـ (حسن) إلى هامش السرد، حتى أننا لا نكاد نراه مرة أخرى بعد مشهد العزاء في الصفحات الثلاث الأولى. ليظل الحضور المسيطر في الرواية لانشراح وحدها، حضوراً نسوياً طاغياً، لكنه حضور رمزي وتقني، فالكاتبة لم تكن في حاجة إلى حيلة لتخرج بطلتها من قبرها كما فعل إدوار الخراط في رواية (الزمن الآخر) مع بطله، فأخرجه من قبره ومنحه حياة جديدة. لهذا، تظل رواية (ضحا عاصي) محتفظة ببعدها الواقعي، ونزعتها الاجتماعية ووعيها النسوي، بالرغم من استفادتها القوية من الخيال.   

في المشهد الافتتاحي للرواية، يبدو حسن منزويًا وتائهًا في عمق سرادق العزاء. عاجزًا عن فهم ما يدور من حوله. مندهشًا من كل هذه الأبهة، والأهمية التي أحاطت بموت زوجته انشراح، كأنه يشهد مولد انشراح جديدة غير تلك التي كان يعرفها امرأة بائسة تشبه كرة من اللحم، لا تحرك شهوته، حتى عافها، واستعاض عن وجودها الحقيقي بواقع افتراضي؛ عندما أغلق باب حجرته عليه، وانهمك في مشاهد أفلام البرنو. كان نصيب انشراح من هذه الفحولة الذكورية المهدرة، أن تجمع المناديل الورقية الملوثة بمنيه كل صباح.

 هذه التفصيلة السردية الصغيرة، والتي لابد كانت تدور بذهن حسن وهو شارد في مجلس العزاء. ترد عليها فكرة القيامة السردية لانشراح لتبرز البعد الرمزي فيها، الذكورة طاقة مهدرة، في مقابل الأنوثة كطاقة روحية متجددة. هذا ما نسميه الفاعلية المعرفية للخيال، فنحن نعرف أن الثقافة الذكورية اللاهوتية، أنتجت فكرة القيامة واختصت بها رجال ليخلصوا البشرية من خطيئتها، أنهم أنبياء وأبطال منقذين. ومن هنا تأتي فكرة قيامة انشراح لتستنهض في وعينا قيامه نسوية، تبدأ تاريخا جديدا يصحح الواقع، مؤكدا أن الأنثى هي مبدأ الخلق الحقيقي وسر الوجود. يذكرنا هذا  بعشتار ذات الشعلة المتجددة، الإلهة التي تقوم من موت الشتاء، لتمنح الطبيعة الخصب والنماء. هكذا، تتمكن الرواية من تسريب رموزها النسوية بلا خشونة، لتصبح انشراح رمزًا للخصوبة الكونية التي لم يفهمها حسن، فعاش حالة من الاغتراب عن الواقع الحقيقي، وأهدر طاقته الجسدية، فمات حيًا. في حين انهمكت انشراح في تفاصيل الحياة اليومية، رعتها كما رعت عشتار الطبيعة  فازدهرت من حولها ونمت. أن كل هذا الحضور الصاخب للمعزين في سرادق العزاء، هو الشاهد الواقعي، على ما منحته انشراح من طاقة روحية للحياة.

ويبدو أن رسم شخصية انشراح على هذا النحو المتوازن والمتكامل بوصفها طاقة متجددة للحياة، كان وسيلة الكاتبة في التعبير عن رؤيتها لبنات جنسها. فترسم شخصية انشراح بكثير من التفاصيل التي تعكس العمق النفسي للمرأة عمومًا، وقدرتها على احتواء الواقع بكل تناقضاته. فإخلاص انشراح لحياتها الزوجية رغم ما فيها من معاناة، ليس من قبيل الوازع الديني أو الإذعان للقيم المجتمعية، فثم دوافع أكثر عمقًا من كل هذا. إنه إحساس بأن الطبيعة اختصتها بطاقة روحية متجددة، حتى أن غيابها لا يعني موتها، بل تحولها لطاقة جديدة تُضخ في الحياة.

إنها تمارس هذا الدور مع نساء شابات من معارفها، تضخ فيهن الحياة كلما تعرضن لميتات نفسية، بنفس الطريقة البدائية التي تعلمتها من جدتها. تلجأ إلى الموروث الشعبي الذي يمثل حكمة الشعوب بما فيه من تناقضات بين المرئي واللامرئي، وكأن مريديها على الرغم من درجاتهن العلمية ورقي ثقافتهن، لا يمكنهن مقاومة إغراء وصفاتها السحرية. هكذا يصبح المتخيل السردي جزءًا من الحقيقة، كما تصبح الأساطير والحكايات الشعبية، في قوة الواقع، إنها طاقة المعرفة الأولى التي تضخ الحياة في الواقع المعاش. ولدينا مشهد دال على هذا المعنى. ففي مناسبة الاحتفال بعاشوراء، تعد انشراح لصديقاتها الأرستقراطيات، أطباق (العاشوراء) التقليدية، مع قوالب (التشيز كيك). الماضي والحاضر، الحقيقة والخيال، المرئي واللامرئي جنباً إلى جنب هنا، يؤكدان سريان المعنى الروحي بكل أسطوريته وميتافيزيقيته في الواقع المعاش. إنه التمثيل الحيوي للأنوثة التي تقول عنه كلاريسا بنكولا في كتابها (نساء يركضن وراء الذئاب):” إن على المرأة أن تستوعب تاريخها الطبيعي بكل مراحله وتناقضاته لتحمي روحها من التلاشي في عالم يحكمه الرجال”. وبهذا الوعي المتداخل مع طبيعة الوجود ليس الإنساني فحسب، بل كل صور الوجود في الطبيعة، تتمكن انشراح من التحرك بين الأمكنة والأزمنة، وبين الطبقات الاجتماعية، والمعتقدات الدينية، والجنسيات والقوميات المختلفة.

هكذا تتناول الرواية أطيافًا فولكلورية عديدة، ومن ثقافات مختلفة حتى تكاد تصبح بحثًا في أنثروبولوجيا النساء. وهو أمر لا نستبعده، فمن المعروف أن للكاتبة بحث علمي، حول شكاوى النساء اللاتي يضعنها في صندوق النذور بضريح السيدة نفيسة، الملقبة بنفيسة العلوم.

وعلينا أن نتذكر، أن انشراح لم تكن بطلة روائية، إلا نتيجة لتحولها إلى شخصية مركزية تدور حولها – اقترابًا وابتعادًا- الكثير من الشخصيات النسائية، بمختلف حكاياتهن ومعاناتهن، يلجأن إليها لتعينهن على مواجهة الحياة، بما تملك من وعي فطري وعلم لدني وطاقة روحية وكأنها معادل موضوعي للسيدة نفيسة العلوم رضي الله عنها.

 لكن هذا الحضور النسوي في الرواية، بكل أبعادة النفسية، وشواهده المعرفية، لم يكن ناتئًا في الرواية، بل كان يسري بين سطورها بنعومة، على غير ما اعتدنا عليه في الكتابات النسوية، التي تتمتع عادة بنبرة عالية لتعلن عن قضيتها بوضوح.

إن هذه النعومة السارية في الأحداث، تحيلها إلى شواهد وعلامات جمالية، ومن ثم تتناغم النزعة الروحانية التي تظلل منعطفات السرد.


***

–         104 القاهرة – رواية لضحى عاصي- دار الياسمين للنشر

أضف تعليق