رجل وامرأة. قصة: سيد الوكيل

images  بدت خطواته على البلاط قلقة، قدماه تزحفان ببطء، وتردد، وثمة حركات من اليدين، تكشف عن هواجس كامنة. كان يستدير وينظر لامرأته الجالسة على الدكة الرمادية الداكنة، واجمة كانت، وتحدق في فراغ ثقيل.

عاد ينظر إلى الضابط الذي كان منكبًا على الأوراق، رآه منهمكا، ويهز ساقيه بعصبية، فيهتز نصفه العلوي من وراء المكتب المعدني الرمادي.

 اقترب والتمعت عيناه في الضوء الساقط من السقف العالي. كان المصباح متدليًا بسلك طويل، أسود بلون الذباب، فبدا في منطقة الظل عميقًاً وداكنًا.

 ثمة ريح تهب من النافذة الكبيرة، ذات القضبان المعدنية. ريح باردة وناعمة، فتقلصت ملامحه السمراء وهو ينحني بعوده الناحل، فيما يتأرجح ظل رأسه، داكنًا على الأوراق الناصعة المفرودة أمام الضابط.

 الضابط خبط القلم بعنف على سطح المكتب، توقف عن هز ساقيه، اضطجع في كرسيه إلى الوراء، نفخ في ضيق وهو يحدق في السقف، فرأي المصباح يتأرجح بفعل الريح. قال دون أن ينظر في وجه الرجل:

– ألا انتهي  من عملي؟

 الرجل من الذكاء بحيث توقع الجملة التالية، فعاد إلى الدكة الرمادية، وجلس بجوارها. من جديد سمع صوتها، فيما جسدها الممتلئ ينتفض تحت المعطف البني السميك، وهي دافنة وجهها بين كفيها؛ لكن النشيج بدأ يعلو، فانتبه الجندي الواقف عند الباب. فض غلالة كسل كانت تخدر جسده. تثاءب. نظر في ساعته ونفخ مزيدًا من الضجر، وهو ينظر ناحية الضابط بطرف عينيه، ويزحف نحوهما ببطْء.

 الرجل حين شعر به يقترب منهما انتفض واقفًا، فبان طوله المفرط، ونحوله، والانحناء الخفيف في قامته، لكن ملامحه راحت تنبسط رويدًا، حين أحس رغبة الجندي في الكلام، فيما توقفت المرأة عن النشيج وهي ترهف السمع، وتمسح دموعها بالمنديل المكرمش بين أصابعها، وتتمخط بلا بصوت.

 قال الجندي: هل معكما صورة للولد؟

ارتبك الرجل لحظة، ونظر للمرأة، فهزت رأسها بالنفي، فيما بدت عيناها محمرتين. قال الرجل: لا أذكر أن له صورة.

 مط الجندي شفتيه وقال: هذا يصعب المسألة. ثم انسحب ناحية الباب ببطء، فعادت ملامح الرجل تنقبض من جديد، وعادت المرأة تدفن وجهها بين كفيها. سمع صوتها، يأتي من تحت المعطف البني القديم، كعواء جرو مريض.

 عادت نظرات الرجل تتأرجح بين الضابط المنكب على الورق، والمعطف الذي عاد ينتفض.

 تهالك على الدكة بجوارها، ولف ذراعه على كتفها، ربما فكر أن يضمها، أن يفعل أي شيء. كان الانتفاض أكثر عنفًا من كل أفكاره.

قال كأنه يتخلص من شيء ثقيل:

  • لا بد من أن نسأل عنه في المستشفيات.

 ثم حاول تجنب نظراتها المرتعبة التي تفجرت في وجهه، وتبعثرت على كل ملامحه، لكنه لم ينجح. غمره ذعر، ولوم. كن يده وارتعد، وخبط بكفيه على جبهته. راح يخبط بقسوة، وانفلتت منه آهة، ونشيج متقطع راح يعلو.

 تروعت عيناها الذابلتان بقسوة منظره، التصقت به، مالت قليلاً وحطت كفها على ظهره الضامر فزاد نشيجه. استطاعت أن تفهم كلماته المتعثرة، التقطتها من بين النهنهات وهو يردد:

  • ينقطع لساني، ينقطع لساني.
  • تكلمت لأول مرة، قالت: بعد الشر.

 احتضنته، فألقى براسه على كتفها، بضع دموع انسالت، فتشربها المعطف البني السميك.      

 من مجموعة أيام هند 1990

 

أضف تعليق