لحظة. قصة: إبراهيم محمد

لحظة
أصحو متأخرا كعادتي في الطفولة، فأجد أمي بالخارج في الصالة. أشتم رائحتها، وأسمع صوتها الخفيض. ويحس قلبي بحركتها الدؤوبة. تعد الطعام لي ولأخوتي لا ريب. عجيبة هذه المرأة، كأنما ولدت في مطبخ!!
أخرج. تبتسم لي وتهش. وجهها الهاديء الراضي يستقبلني بأبلغ عبارات الترحيب والحب دون أن تنطق شفتاها بكلمة.
أجلس إلى جوارها. تدع صينية الأرز التي كانت تنقب فيها عن القش. وتهرش في شعري. وتضحك. أتناول صينية الأرز. أفتش بدلا عنها. أخرج حبيبات فاسدة وقش أكثر. أنظر لها لأقول: أنا أشطر منك. أري أرتعاشة وجهها. يا لقسوة ما قلت! تعاني منذ شهور من عينيها. عيناها الخضروان اللتان طالما تحدثنا بإعجاب أنا وأخوتي عنها. تقول مبتسمة:
ـ شاطر يا أخويا.
تقوم من جواري، وتقف أمام البوتاجاز.
أتأملها لحظة بجلبابها الخضر ذو النقاط السود وبنيتها العملاقة. وإيشاربها الذي يتدلي علي ظهرها ضامما شعرها الكثيف.
أعود للنظر في صينية الأرز. أسمع صوت تقليبها بالمعلقة في الأناء. بأنتظام شديد، وبصبر. أفتش في صينية الأرز. مع كل حبة فاسدة أو قشة أخرجها أشعر بالألم. والحسرة علي عينيي أمي. أحاول أن أغالب دمعي لكنه يغلبني. يختلط الأرز ببكائي. أدع الصينية، وأقوم.
أنتظر أن تلتفت لي، لتسألني أين أذهب. لكنني لا أجدها مكانها.
أشعر بهلع وأنا أمقق عينيي إلى الأمام، حيث كانت تقف منذ لحظة. إنها ليست هنا. أنطلق في بقية أماكن البيت، أفتش عنها كالمجانين. أصرخ فجأة أمي أين أنت؟. لا صوت يرد علي.
أشعر بطول الكابوس، أو بسخافة المزحة. أخرجي يا أمي من حيث أختبأت، فأن لعبتك الأخيرة لا تروق لي. لا تظهر. فأناديها بأعلي الأصوات، أحتج، وأضرب الأرض بقدميي، أزرجن وأعض علي شفتيي وأصابع يدي. أماه أين أنت؟. لا تدعي بان كل ما حدث معقولا!. منذ لحظة كنت هنا، لا تخبريني بأن ما كان قد كان في لحظة واحدة!
لا ترد. ولا صوت يرد سوي الصدي في رأسي. صدي أسالتي التي لا إجابة لها. وصدي الذكريات المؤلمة.
أتطلع إلى حيث كانت تقف في مشهدها الختامي، أشعر بجزع وأنا أتجه نحو البوتاجاز لأطفي ناره التي أشتعلت من يومها ولم تخمد حتي اليوم.
أجلس علي الأرض منتظرا ظهورها من جديد. تعيد للبيت نظامه، وللحياة حيويتها.
أهمس:
ـ لن أتحرك من هنا. ربما عدت وأقلقك غيابي.

أضف تعليق