مغامرة الكتاب القصصي، حيوانات أيامنا لمحمد المخزنجي. د. حسين حمودة

يغامر نص محمد المخزنجى (حيوانات أيامنا ـ “كتاب قصصى”) (*) ـ باستكشاف جوانب جديدة، خفية وغامضة، فى “وحدة الكائنات” القديمة التى لم يكن  فيها الإنسان قد انفصل عن  الكائنات الأخرى ولا عن مفردات الطبيعة. يجاوز هذا النص محض “ابتعاث” تلك الوحدة الأوّلية المنقضية إلى تقصى بعض أبعادها الحية فى سياق زمنى آخر، موصول بعالم مرجعى هو حاضر “أيامنا” ـ كما يشير عنوان الكتاب ـ الذى قد ترسّخ وتكرس معه، وفيه، الانفصام عن ذلك العهد الغابر عندما كانت الطبيعة والكائنات جميعا مندمجة ومنسجمة فى وجود كلىّ، شامل مشترك. نصوص الكتاب (قصصه الخمس عشرة، ومقدماتها المختارة من كتابات متنوعة حول الحيوانات، المقتطعة من كتب تراثية ومن دراسات ومقالات معاصرة) تجسد مجموعة من التناولات والتجارب تترامى فى أمكنة شتى، بمناطق جغرافية متباعدة من بلدان العالم الذى غدا ساحة مفتوحة أو “بيتا كبيرا” لهذه النصوص، كما تحيل هذه التناولات والتجارب إلى تواريخ متباينة؛ إذ يتخطى بعض أحداثها الحاضر الراهن إلى أزمنة مستعادة من ماضى رواة القصص وشخصياتها، ويمتد بعض وقائعها إلى تواريخ أكثر نأيا. و”الكتاب”، بهذا المعنى، ينهض على ارتحالات عبر مساحات رحبة من أماكن وأزمنة، ومن ثقافات وعوالم، ومن تجارب فردية وجماعية، ولكن تظل الحيوانات نقطة انطلاق وبؤرة مركزية لقصصه جميعا، تنظم سردها، وتصوغ حركة هذا السرد، وتقوده، كالدليل، فى مغامرته الفنية المحلّقة، القافزة على كل تخوم.  

ـ 2 ـ

الحيوانات، “مخلوقات الله” بعبارة الراوى  فى قصة “الأفيال ترتوى” (انظر الكتاب، ص 113)، يتكافأ حضورها فى عالم/عوالم قصص الكتاب وحضور الشخصيات من البشر. يرتكز عدد كبير من القصص على نوع من الموازاة بين الحيوان والإنسان، فيلوح للحيوانات أدوار فاعلة فى الأحداث القصصية، ويتم التعامل معها بالاهتمام والاحتفاء نفسيهما بالشخصيات الإنسانية. وفضلا عن “مدخل” الكتاب المعنون “لمحتان”، المقتطع من  (كتاب الحيوان) للجاحظ، الذى يتوقف عند بعض التباينات التى يراها الناس فى هذه المخلوقات المتنوعة من ناحية، وعند بعض الأواصر التى تصل بينهم وبين هذه المخلوقات من ناحية أخرى؛  حيث فرق الله بين الحيوانات “فى عيون الناس، وميزها فى طبائع العباد، فجعل بعضها بهم أقرب شبها، وجعل بعضها إنسيا، وجعل بعضها وحشيا”، والذى يؤكد من ناحية ثالثة أن الإنسان؛ “العالم الصغير سليل العالم الكبير”، “يأكل اللحم والحب، ويجمع بين ما تقتاته البهيمة والسبع”، “فيه صولة الجمل، ووثوب الأسد، وغدر الذئب، وروغان الثعلب…إلخ”، “وربما وجدوا فيه، مما للبهائم والسباع، خلقين أو ثلاثة” (الكتاب، ص 5).. فضلا عن هذا المدخل، فإن كل عناوين النصوص القصصية التالية بالكتاب تتضمن إشارات إلى حيوانات (غزلان ـ مهر ـ جراء ـ سمكات ـ بغال ـ خيول ـ جواميس ـ أرانب ـ فيل ـ أتن ـ دببة)، كما أن هذه النصوص نفسها يتم تشييدها على التقاطات تستكشف جوانب خفية من عالم الحيوان، وتنطلق من رؤى تنتمى أحيانا إليه، وتستطلع أرضا مجهولة، مشتركة، للتجاور والتقارب بينه وبين عالم البشر.

يسوق الراوى فى قصة “الأتن” عبارة واضحة تؤكد أن اهتمامه الراهن بعالم الحيوان قد حجب اهتمامه القديم بعالم البشر: “اتجاهى  (…)بات معروفا للكافة فى السنوات الأخيرة، وهو عدم الاهتمام ـ شبه المطلق ـ بعالم البشر، والاستغراق فى الاهتمام بعالم الحيوان” (الكتاب، ص 82)، وهذا “الاستغراق” يقترن فى كثير من قصص الكتاب بتعاطف صريح مع الحيوانات التى أجبرت قسرا على القيام بمهام وأدوار سلبتها كينونتها أو سجنتها فى كينونة مغايرة لطبيعتها الفطرية؛ إذ تحولت إلى محض أداة للاستغلال القاسى من البشر أو وسيلة مؤلمة لتسليتهم. فى قصة “دببة بيضاء/ دببة سوداء” يرصد الراوى المتكلم كيفية ترويض الدببة بعد نزع أسنانها ومخالبها؛ حيث”يتحول الدب إلى طفل مقهور أو شيخ كسير” (الكتاب، ص 100)، وبهذا الترويض ـ فيما يقول الراوى نفسه ـ “يتحول دب الهيمالايا الفاتك الأسود إلى مسخرة، لكنها مسخرة موجعة للقلب حينما يمعن الإنسان فى دقائقها” (الكتاب، ص 101). هذا الاهتمام الراهن الأخير، وهذا التعاطف الظاهر الصريح، يصوغان نظرة جديدة، حانية وحادبة، تحتوى الإنسان والحيوان معا فى وجود متكافئ؛ فيتجاور حضور منظور الإنسان فى بعض القصص مع  حضور منظور الحيوان فى قصص أخرى (فى القصة الأولى “غزلان”، مثلا، يوازى الراوى شخصيات المنتصرين من “المارينز”: “دخل المارينز القصر بعد ليلة طويلة من برق القصف..إلخ” ـ ص 7، وفى القصة التالية مباشرة، “المهر”، يوازى نظرة ذلك الحيوان الصغير: ” ورآه [المهر رأى ابن الرئيس] يضرب مرة سائسا ..إلخ” ـ ص 9 ـ و”رأى [المهر أيضا] نفسه يجرى مع أمه موثوقين معا فى حبل مربوط بمؤخرة سيارة” ـ ص 10 ـ وهذا التشديد وكل التشديدات التالية من عندنا)، كما قد يتجول السرد فى القصة الواحدة متنقلا بين المنظورين، الإنسانى والحيوانى، بحرية كاملة (فى قصة  “دببة بيضاء/ دببة سوداء” ينتقل الراوى من منظور الراوى المشاهد:”مدهشة طريقة اصطياد الدببة فى الهند.. إلخ” ـ صفحة 98، إلى المنظور المرتبط بالدببة نفسها فى الصفحة التالية: “وطويلة هى الرحلة التى تقطعها الدببة السوداء قادمة من ذرى هضبة التبت (…) مودعة بريتها المطلقة ..إلخ”). كذلك، فى هذا المنحى الذى يحتفى بمثول هذين العالمين معا، يبدأ بعض القصص بوقائع تتصل بالبشر، وتبدأ قصص أخرى بأحداث ترتبط بالحيوان، كما يشير السرد دونما تمييز إلى “جمع” من “كائنات” تنتمى إلى العالمين معا (:”تلك الحلقة التى أحاطت بنا كسوار كثيف من الحيوانات والبشر” ـ الكتاب، ص 93)، وفى غير موضع يصل التقارب بين العالمين إلى نوع من التداخل؛ فتسمى بعض الحيوانات بأسماء الناس (انظرالكتاب صفحات 106، 113، 114)، وينتاب الجميع إحساس واحد ويقومون بأفعال أو بردود أفعال واحدة؛  يأتى ـ مثلا ـ “ابن الرئيس” إلى “مضمار القصر” فـ”يرتعش السيّاس وترتعش الخيول” (الكتاب، ص 9)، ويتواصل أحد الأطباء ـ وهو غير بيطرى ـ وحصانا مكتئبا منهكا، ساقطا على الأرض مشرفا على الموت، تواصلا خفيا، حميما ورهيفا، عبر لغة الكلام والملامسة والغناء: “إيه ياحصان يا عبيط.. لك حياة واحدة وتريد أن تموت (…) مكثت أمسح على عنقه براحتى (…) وواصلت نشيدى وتمسيدى وكأننى أنشد لنفسى وأمسد روحى (…) وإذا بالحصان يهم من رقدته الثقيلة، يعتدل ويلم قوائمه وينفض رأسه، كأنه يصحو من نوم عميق” (قصة “اكتئاب الخيول”، ص 49)، بل ويتجسد نوع  من النزوع الحسى الذى يرتد خلاله الإنسان ـ امرأة هنا ـ إلى حيوانيته الخالصة: “وجدت المرأة جسدها محوطا به [بالدب]، الجسدية فى عرامتها الحارقة، لا رديف الحيوانية المشتعلة بل الحيوانية نفسها، خلاصة الرغبات الوحشية وقد وجدت لنفسها مكانا حارا فى غابة النفس الإنسانية الكثيفة المتشابكة” (الكتاب، ص 104). ولا يقتصر الأمر هنا على “تعليق” الراوى الخارجى على إحساس يتقاسمه هذان الكائنان، أو على “تحليله” لهذا الإحساس، بل يمتد لرصد “وقائع” تعبر عن تواصل حقيقى، يخترق الحدود ويجتاز المسافات، بين الكائنين، الحيوان والإنسان معا؛ الدب يتوقف “رافعا إليها عينيه الصغيرتين المغشاتين بالرغبة..إلخ”، “يقف عند قدميها، وهو لا يبصر غير أنثى لدنة منطرحة على الأرض عند قدميه”، كأنه “مراهق بشرى يجمد إذ تنفتح أمامه فجأة أبواب فرصة لا يصدق حقيقة وجودها” (الكتاب، ص 102 و ص 103 على التوالى)  والمرأة التى أرعبها هذا الدب، ثم باغتها حنانه الدافق، سوف تستغنى عن عالم البشر ـ الذين سيصمونها بالجنون ـ لتكتشف أعماقها المطمورة، ولتعثر على ذاتها، وربما على سعادتها، مع الدببة التى تغدو عائلتها ومجتمعها البديل.

فى نفى المسافة بين العالمين، ينزع بعض القصص إلى إعادة النظر فى مظاهر “التحضر” التى فارقت بين الإنسان والحيوان، أو ميزت الأول عن ـ أو على ـ الثانى بتراتب يبدو مجحفا أحيانا؛ فيشار إلى سلوكات تتسم بالرقى يتحلى بها بعض  الحيوانات. الأفيال، مثلا، فى ورودها الماء، تلتزم بـ”آداب” و”قواعد” واضحة التهذيب؛ حيث توزع نفسها بهدوء حول بركة الماء، الأمهات فى الصدارة، والصغار إلى جوار أمهاتهم، بينما الذكور فى الأطراف؛ وبعد أن تشرب الأم الكبرى ويشرب الصغار يتراجعون عن الماء، فتأتى الأمهات الشابات، “يكررن ما صنعت [الأم الكبرى]، ينفخن سطح الماء لتنظيفه، ولا يبادرن بالشرب، بل يدعن الصغار يشربون أولا”، وبعد أن تشرب الأمهات والصغار يتقدم “الآباء والذكور أخيرا” ليشربوا (الكتاب، ص 122). وعند صدور الجميع عن بركة الماء يتراجعون بطريقة يضاهى الراوى بينها وبين “تراجع البشر عند انصرافهم فى بلاط السلاطين والملوك”، حيث لا يولون ظهورهم للماء وإنما يتراجعون بظهورهم إلى أن يبتعدوا مسافة. وسلوك الفيلة هنا ينم عن أدب حقيقى فيما يومئ الراوى؛ “كأنهم يعبرون عن الامتنان لتلك المنحة الرقراقة” (الكتاب، ص 123)؛ وفى هذا كله ما يكشف نظاما دقيقا، راقيا، مشيّدا على احترام قيم الأمومة وكبر السن والضعف، ولعل هذا يثير التأمل فى سياق آخر خلاله كان بعض “الآدميين” يتباهون بتكالبهم وتصارعهم على ورود الماء فى غير نظام، أو فى نظام مبنى على منطق القوة وحدها (نستطيع أن نتذكر هنا بيت عمرو بن كلثوم:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا           ويشرب غيرنا كدرا وطينا).

ـ 3 ـ

التقارب والتداخل بين عالمى الإنسان والحيوان، على هذه المستويات المتنوعة، يتجسدان فى سرد “الكتاب” بطرائق عدة،.

من هذه الطرائق ما يتحقق خلال المجاورة بين نوعين من النصوص؛ “توثيقى” يتمثل فى الاقتطاعات التى تستهل بها القصص، و”تخييلى” يتمثل فى التجارب التى تنهض عليها القصص نفسها. ينتمى بعض هذه الاقتطاعات إلى كتابات تراثية عربية ـ كما لاحظنا مع (كتاب الحيوان) للجاحظ، ومثله اقتطاعات أخرى من (حياة الحيوان الكبرى) للدميرى و(عجائب المخلوقات) للقزوينى ـ وينتمى بعضها الآخر إلى كتابات متنوعة؛ من كتب ومجلات وقواميس: (الإنسان والحيوان) ـ يورى ديمتريف، (شخصية الحيوان) ـ مونرو فوكس، (حين تبكى الأفيال) ـ جيفرى ماسون، (الأمراض النفسية) ـ سيندى أنجل، (الحياة الوجدانية عند الحيوانات) ـ سوزان ماكارثى،  (القاموس الوجيز)، مجلة (فوكس) العلمية..إلخ. تقيم هذه الاقتطاعات نوعا من “التحاور” مع عالم/عوالم  القصص، أو تصوغ شكلا من أشكال “التصادى”، معكوس الترتيب، مع ما تنطوى عليه هذه القصص من “أصوات”، وفى الوقت نفسه تقدم هذه الاقتطاعات، التى تأتى فى استهلال القصص دائما، ما يشبه “عقدا” أوّليا للقارئ، يومئ  إلى الوجهة التى سوف تقوده القصص نحوها أو إلى المسار الذى سوف تمضى به هذه القصص فيه. من ناحية أخرى، تتضمن هذه الاقتطاعات “حقائق” عن عالم الحيوان، تعتمد لغة الرصد والملاحظة والاستنتاج، وهى لغة إشارية، وأحيانا علمية، محايدة ومحددة وجازمة. وعلى أساس هذه الحقائق، وفى مقابل هذه اللغة، سوف يتم تجسيد “التناولات” فى قصص الكتاب، المصاغة بلغة الإبداع البعيدة عن الحياد والتحديد والجزم. “الحقائق” المتضمنة فى الاقتطاعات لا تتعلق، غالبا، بزمن أو بمكان، وإنما تصور بعض السمات الثابتة فى الحيوانات، بينما تقترن “تناولات” القصص بسارد بذاته ـ أو بساردين بذواتهم ـ وبزمن وبسياق بعينهما، فضلا عن أن هذه التناولات، حتى وإن تطرقت إلى “تاريخ” قديم، لا تنأى عن عالمنا ـ  نحن القراء ـ الذى يلمح إليه الضمير الجمعى فى مفردة “أيامنا” بعنوان الكتاب، والتى تجد ترديدا لها داخل بعض قصصه (يشير الراوى، مثلا، إلى قلعة الامبراطور المغولى “أكبر” التى صارت بمرور الزمن “مدينة أشباح”، “تسرح فيها القردة التى كان الامبراطور يقتنيها، والتى لم تكف عن التناسل ، والتكاثر فى المكان حتى يومنا هذا” ـ الكتاب ص 98).

وأيضا من طرائق تجسيد التداخل والتقارب بين عالمى الإنسان والحيوان ما يتحقق خلال التقاط “عالم بينىّ” قائم فيما بين التخوم أو الحدود المتعارفة. فى هذا المنحى تتردد كلمة “السرنمة” التى تعبر عن حالة بين النوم واليقظة (انظر الكتاب ص 80 مثلا)، كما يرصد الراوى/ الرواة، فى غير موضع بالقصص،  بعض “التجارب” التى تنتمى إلى هذا العالم البينىّ ـ المصاغ أحيانا بمنطق الحلم ـ وفى هذه “التجارب” تطل مفردات عالم الحيوان: “دخلت فى البرزخ الكائن بين الصحو والنوم، وما أغرب أننى حين غلبنى النوم رأيت مباراة شطرنج فى حلم خاطف، وكانت البيادق على رقعة هائلة فى ساحة ميدان كبير، تتكون من دببة بيضاء ودببة سوداء، تتحرك فى نقلات محكمة..إلخ” (الكتاب، ص 107). وقريبا من هذه الوجهة يحتفى بعض القصص ببعد “غرائبى”، أو “فانتازى”، يجاوز المنطق المألوف ليعبر عن “رؤيا” داخلية ما، تشمل الإنسان والحيوان معا. من زمنه ومكانه، فى القرن العشرين وفى أمكنة محددة مسماة بمدينة القاهرة، يرتحل السارد ـ فجأة ـ إلى مدينة روما فترة “نيرون”، ليرصد ما يراه: “اقتربت مزيدا فاكتشفت أن هذه الحمر جميعا من الإناث، أتن ممتلئة الضروع (…)، وحليبها المحبوس يشخب وهى تركض، فيطفئ مسارات دقيقة يتصاعد منها بخار ملامسة الحليب للنار، وسرعان ما يتلاشى البخار وتلتئم مسارات الانطفاء، يؤج فيها اللهب من جديد..إلخ” (الكتاب، ص 88). وأيضا، قريبا من هذه الوجهة نفسها، يتوقف بعض القصص عند ظواهر استثنائية، وربما خارقة، تشى بتداخل عالمى الإنسان والحيوان. فى نهاية قصة “الأفيال ترتوى” يختفى مرافق الراوى المتكلم فى رحلته ـ وقد كان هذا المرافق مولعا بالأفيال ـ ويبحث الجميع عنه دونما جدوى، ثم بعد سنوات عدة يكتشف الراوى مع المصور الذى كان يصاحبه فى الرحلة أن هناك صورتين فوتوغرافيتين التقطتا لمجموعة الأفيال، أولاهما عدد الأفيال فيها اثنان وعشرون، وفى الثانية عددها ثلاثة وعشرون، ويقدم الراوى والمصور بعض الملاحظات التقنية التى تؤكد أنه ليس هناك خطأ فى الأمر كله، بما يومئ إلى أن المرافق الذى اختفى قد “تحول”، بطريقة ما، تستعصى على الإدراك القريب، إلى واحد من الأفيال التى كان مولعا بها (انظر الكتاب ص ص 124، 125).

ـ 4 ـ

كذلك تنهض (حيوانات أيامنا) فى تجسيد عالمها على مجموعة من التقنيات المتنوعة، التى تتردد وتتكرر فى القصص كأنها “تيمات”   Themes ثابتة.

من هذه التقنيات التقابل بين ما هو معتاد وما هو استثنائى على مستوى الأحداث؛ إذ تتوقف الواقعة القصصية عند حدث استثنائى يقطع أحداثا معتادة، سابقة على هذا الحدث وممتدة فيما بعده. فى قصة “جنادب نحاسية” تبدأ الوقائع بحدث استثنائى؛ إذ يسمع الراوى المتكلم صوت جنادب فى النهار: “صرير جنادب فى النهار؟! ساءلت نفسى مستغربا وأنا أهرول، وأبطأت حين أدركت أن الصرير ينبعث من فوق طاولات باعة الرصيف..إلخ” (الكتاب، ص 14)، وتأسيسا على فعل توقف الراوى وشرائه جندبين سوف تترتب وقائع القصة كلها. وفى قصة “كان يطارد فراشة فى البحر” يرقب الراوى المشهد المعتاد المألوف للبحر “وقت خلو الشاطئ من البشر فى الصباح الباكر، قرب الفجر، وعندما يكون البحر فى نهايات الجزر”. ويقطع هذا المشهد المعتاد مشهد استثنائى؛ رجل على كرسى متحرك يخوض فى الماء ثم يوغل فيه (انظرالكتاب، ص 23)، وهذا المشهد الاستثنائى يمثل فاتحة لوقائع القصة كلها. وفى قصة “بغال” يشير الراوى إلى استيقاظ “العريف فرحان” “مبكرا كعادته”، ثم يؤكد أنه صحا “هذه المرة غير فرحان”. وطريقة استيقاظ “فرحان”، المختلفة “هذه المرة” عن سابقاتها، ترتبط ارتباطا وثيقا بالوقائع الاستثنائية التى سوف تتوقف القصة عندها، أو فيما قبلها مباشرة؛ حيث جاءه الأمر غير المسبوق بإعدام المهربين الذين كانت “الأوامر”، من قبل، تسمح لهم دائما بالمرور (انظر الكتاب، ص ص 37، 38 وما بعدهما). وفى قصة “الأتن” تبدأ الوقائع بزيارة غير معتادة وبمشهد غير مألوف: “ثمة شيء غير عادى كنت أستشعره فى الزائر الغريب، وكأن طيفا من ضوء أزرق شديد الخفوت يمس بشرته الخافتة مسا خفيفا..إلخ” (انظر الكتاب، ص 81 وما بعدها)، وهذا الزائر الغريب سوف يقود الراوى فى رحلته العجيبة، التى تمثل الوقائع الأساسية فى القصة.. وهكذا. وتوقف القصص، فى وقائعها الرئيسية، عند ما هو استثنائى، يمثل بعدا أساسيا من أبعاد العالم الذى تستكشفه هذه القصص فى العلاقة بين البشر والحيوانات، وهو عالم يحتفى دائما بما يثير الدهشة ويفاجئ التوقع.

ومن التقنيات التى تتكرر فى بناء القصص اعتماد بعضها منطق “الروايات” أو “الأقوال” المتواترة حول بعض الوقائع، وهذه الروايات والأقوال، المنسوبة إلى ضمائر مجهولة أو مبهمة، جماعية غالبا، تقوم بدور ثانوى، لكنه مهم إذ يستكمل الدور الأساسى الذى  يقوم به الراوى فى السرد. فى هذا السياق تتردد عبارات من مثل: “وقيل إن ذلك لم يحدث” (الكتاب، ص 55)، و”قيل إن ذلك بسبب ارتفاعها [المدينة] وعدم امتلاء قنواتها بالماء..” (الكتاب، ص 98)، ويقال إنها نشأت فى أثناء الحرب الفيتنامية، لتلبية رغبات جنود المارينز” (الكتاب، ص 15)، و”تردد أنه يطعمها لحم من يغضب عليه” (الكتاب، ص 8)، و”تنامى إلى سمعى ما يحكونه عن الظهور الليلى لتلك الأرانب” (الكتاب، ص 57)، و”كما أخبر الشهود وجمعت شهاداتهم الحكاية” (الكتاب، ص 102). تقدم هذه الروايات والأقوال أبعادا متنوعة للواقعة القصصية، أو زوايا متباينة لها، تضاف إلى الأبعاد والزوايا التى يقدمها الراوى، وكلها تتضافر معا لتكتمل معالم “الصورة”، أو لتتبلور جوانب متعددة لهذه الصورة. واستخدام هذه التقنية، الذى يومئ إلى وجود أكثر من وجه واحد للحقيقة الواحدة، يثير فى الوقت نفسه التساؤل حول ما إذا كانت هناك، ابتداء، حقيقة واحدة.

وأخيرا، من التقنيات التى تتكرر فى بناء القصص اعتماد منطق “القص التفريعى”، الذى يمضى خلاله السرد الرئيسى فى مسارات فرعية جانبية، ليقدم إضاءات حول حدث من الأحداث أو حول شخصية من الشخصيات، ثم يعود إلى مساره الأساسى مرة أخرى (من أمثلة ذلك توقف الراوى عن حركة سرده الطولية التى تمضى قدما إلى الأمام، ليقدم بعض المعلومات عن “تشانج راى” فى شمال تايلاند ـ انظر الكتاب ص 16، أو توقفه لعرض بعض الملابسات حول حياة إحدى الشخصيات، خارج مكان القصة وخارج زمن أحداثها، بما يضئ لحظتها الحاضرة ـ انظر ما يذكره مثلا عن شخصية “فرحان” ص 41).

ـ 5 ـ

يتمثل بعد من أبعاد مغامرة السرد فى (حيوانات أيامنا) فى ذلك التنوع اللافت الذى يجوب مجالات عدة تلوح ـ للوهلة الأولى ـ جد متباعدة؛ إذ يجمع السرد، بتجانس شفيف، وبترابط وتناغم، ما لا يجتمع ولا يترابط ولا يتناغم عادة (ولعل هذا المنحى يمثل ملمحا من ملامح السرد فى أعمال أخرى لمحمد المخزنجى، وليس فى هذا الكتاب القصصى فحسب). وإلى جانب نهوض السرد فى قصص الكتاب على بعد “تخييلى” وأحيانا “غرائبى” واضح، يمكننا بسهولة أن نلحظ مستويات أخرى متنوعة.

من مستويات السرد فى هذا “الكتاب القصصى” ما ينطلق من “نزوع توثيقى” ـ إن صح التعبير ـ حيث نطالع فى حكى الراوى، على سبيل المثال، اقتطاعات نصية من موضوع منشور بإحدى المجلات “مأخوذ عن كتاب للأمريكى جون كامينجز”، مستشهدا “بكتاب وثائقى لأمريكى آخر هو كريستوفر روبنز”. وفى هذا الاستشهاد نقرأ عرضا لوقائع عملية سرية ضخمة “انخرطت فيها المخابرات الأمريكية تحت اسم (كودى) هو “طيور الغداف”. وخلال هذا العرض ـ الذى يمتد إلى ما يقرب من صفحة كاملة ـ نتعرف بعض الوقائع التفصيلية المقرونة بتواريخ محددة تتعلق بتلك العملية السرية (انظر الكتاب، ص ص 20، 21). وقد يتجاور السرد الذى ينحو هذا المنحى المحتفى بتقديم المعلومات ـ حتى وإن لم يكن بعضه “موثقا” بشكل مباشر ـ مع السرد ذاتى الطابع عن العالم الداخلى للراوى المتكلم (انظر الكتاب ص 110، ولاحظ الربط بين “رصد” المعلومات بطريقة موضوعية: “إن أهل هذه البلاد هم نتاج الهجرات القديمة من ساحل شرق أقريقيا.. إلخ”، من ناحية، و”إفصاح” الراوى عن صلته الشخصية بما تتضمنه هذه المعلومات من حقائق: “ولعل ذلك كان سر ارتياحى إليهم من اللحظة الأولى لوجودى بينهم..إلخ”، من ناحية أخرى).

ومن مستويات السرد فى هذا الكتاب ما ينحو منحى “تاريخيا”، حيث يشار، مثلا، إلى معالم “هانوى”: “دار الحكم التى كانت مقرا للحاكم الفرنسى قبل هزيمة فرنسا فى معركة بيان فو.. إلخ” (انظر الكتاب، ص 30)، أو حيث يشار إلى “المغول الذين حكموا الهند لثلاثة قرون بعد قدومهم المجتاح من آسيا الوسطى..” (انظر الكتاب، ص 98). ومثل هذه الإشارات، التى تتقصى تواريخ بعيدة عن الحاضر القائم، يتم دائما توظيفها فنيا لإضاءة معالم هذا الحاضر.

ومن مستويات السرد فى هذا الكتاب ما يتمثل فى رصد ذى طابع “استطلاعى” ـ إن صح هذا التعبير الصحفى ـ الذى ينطلق من تجربة “الرحلة” إلى مكان من الأماكن، فى بلد من البلدان، ليقدم “صورة” عن هذا المكان، تعتمد “أدبيات الرحلة” المتعارفة: “فى الطوابق السفلية تحت بهو الفندق، كانت توجد صالات القمار، والنوادى الليلية، وحمام الساونا، وقاعات “المساج”، وأعجب صالة رأيتها فى كل البلاد التى زرتها أو مررت بها..إلخ” (الكتاب، ص 15، وانظر أيضا ص 98، و ص 109. ولعل هذا المستوى السردى موصول بكتابات محمد المخزنجى “الاستطلاعية” لمجلة “العربى”).

ومن مستويات السرد فى (حيوانات أيامنا) ما يفرضه التعبير عن بعض أبعاد العالم الداخلى للراوى، بما يجعل لغته تنأى عن الحياد، وتحتشد بتعبيرات تنتمى إلى صيغ الاستفهام والتساؤل، أو تحتفى بالعلاقات الشعرية، أو تتضمن نوعا من “الأحكام القيمية” الواضحة؛ وعلى هذا المستوى يقوم التساؤل بدور بنائى مهم فى بعض القصص (لاحظ، مثلا، نهاية قصة “المهر”: “فحملوا العظام إلى أقفاص الأسود، جاهلين أن الأسود تعاف اللحم المشوى، فهل تلعق الأسود رماد العظام؟! ـ ص 8)، كما تتناثر فى سرد الراوى/ الرواة عبارات مشبعة بلغة شعرية موحية، متعددة الدلالات، تنأى عن الوصف الإشارى أحادى المعنى: “وسمع الصوت ثانية كالصفير، فمرق طائر مدهوش يخرج من جبينه” (الكتاب، ص 29)، “سكبت الأرنب برفق عبر الباب السلكى الصغير” (الكتاب، ص 60)، “غياب مدو فى صمت ثقيل، واستوحاش قاتم..إلخ” (الكتاب، ص 84)، كذلك يحتشد السرد فى كثير من المواضع بـ”أحكام القيمة” التى تعبر عن انطباعات، أو تصورات، أو آراء، تنتمى إلى  الراوى أو إلى الرواة. وفى هذا المنحى نقرأ تعبيرات من مثل: “ظباء الرمل البديعة” (الكتاب، ص 8)، “أصوات مؤلمة كالعويل” (الكتاب، ص 12)، “فندق جريس (…) كان سيركا بشريا عجيبا، مسليا ورخيصا” (الكتاب، ص 14)، “الصخب الجنونى” (الكتاب، ص 18)، “كاشفة عن طوق رقيق ساحر” (الكتاب، ص 46)، “لحظات العمر الجميل” (الكتاب، ص 59)، “أراقب ما يحدث بعيون تسخر من وقائع المسخرة” (الكتاب، ص 66)، “الرقص الثقيل المؤسى” (الكتاب، ص 94)..إلخ. وكل هذه التعبيرات عن عالم داخلى خاص بالراوى أو بالرواة، يتم توظيفها بنائيا داخل القصص، لتنقل الوقائع والأحداث من مستوى عرضها المحايد إلى مستوى تأملها، أو التساؤل حولها، أو تقييمها، أو رؤيتها من منظور مغاير للمنظور الشائع.

والملاحظ أيضا أن السرد فى قصص هذا الكتاب يتسم بالتعدد النسبى فى ضمائر الساردين وبالتباين اللافت فى مجالات السرد نفسه. فمع غلبة صوت الراوى المفرد فى أغلب القصص، فإننا نطالع أحيانا سردا بضمير جمعى: “بعد أن أوقفنا سيارتنا وترجلنا لنهبط وما كدنا نستقر على أرض القرية..إلخ” ـ الكتاب، ص 93، و:”الأرانب فى ميدان مدينتنا القديم” ـ الكتاب، ص 57). كذلك، مع أن السرد يتسم ببعض القسمات الفنية الثابتة، فإنه يجوب مجالات رحبة، تجمع بين ما ينتمى إلى ثقافات وحقول دلالية ومعرفية شديدة التنوع.

   ـ 6 ـ

فى احتفاء قصص (حيوانات أيامنا) بعالمها الماثل فيما بين التخوم تتحرك مكانيا عبر ما يشبه “المراوحات”؛ بين ما هو مرجعى وما ليس مرجعيا، وتتحرك زمنيا بين ما هو حاضر وما هو مستعاد.

الأماكن المرجعية بالكتاب محددة مسماة: ميدان سيام، بانكوك، شمال تايلاند، البحرالأحمر، هانوى، كمبوديا، الهند، روما، كوبرى عباس، القاهرة، ميدان الجيزة، ويندهوك، ناميبيا..إلخ. وفى مقابل هذه الأماكن يشار بشكل من أشكال التجريد إلى أماكن أخرى غير محددة وغير مسماة: ميدان، القصر الرئاسى، البهو الرئيسى، الشوارع، “المكان”، “كل الأماكن”، الحديقة، القرية، العاصمة البعيدة..إلخ. يضفى النوع الأول من الأماكن طابع “التعين” على بعض القصص، فيصل وقائعها بسياق له وجود “مرجعى” خارج القصص، ويضاهى بين هذه الوقائع وبين “معلومات” متعارفة، أما  النوع الثانى من الأماكن فيكسو عالم/ عوالم القصص بمسحة من التجريد، ويجعل بعض تجاربها يتأبى على الانحصار فى سياق بعينه، وربما يقارب بين ملامحها وملامح “الأمثولة”  Allegory  التى تصلح لكل زمن ولكل مكان.

  والأزمنة الحاضرة فى الكتاب تتصل، فيما تتصل، براهن “أيامنا” ـ كما أشرنا ـ حيث نشهد إحالات بعض القصص إلى “تواريخ” معاصرة أو شبه معاصرة محددة: إلى فترة حكم السادات ـ وإن لم تحدده الإحالة بالاسم ـ وما بعدها (انظر ص ص 84، 85)، وإلى تاريخ ما بعد هوتشى منه (انظر ص 32)، وإلى زمن ما بعد ماوتسى تونج (انظر ص 33)، وإلى “مرحلة بداية الحكم اللاعنصرى” فى ناميبيا (انظر ص 109)، وإلى “ميراث حرب منسية” تعود إلى سنوات ما بين 1964 و 1974 (انظر الكتاب ص 20).. إلخ. ولكن، من جهة أخرى، مع كل هذه الإحالات، يمكن ملاحظة أن مساحات ممتدة فى بعض القصص يهيمن عليها ما يمكن تسميته “قص الاستعادة”؛ حيث تنطلق الوقائع من عالم الذاكرة، حيث يتم استدعاء الوقائع التى باتت نائية فى الزمن، أو حيث يمثل فعل التذكر نفسه مدخلا للسرد كله (تبدأ قصة “الأتن”، مثلا، بالعبارة التالية: “لابد أن أذكر، وأنا أستعيد كل شيء، لعلى أفهم ما حدث، أننى استيقظت من قيلولة العصر يومها مخدرا نشوان..إلخ، انظر ص 79). وكثيرا ما تمثل استعادة تجارب الماضى ـ وأغلب هذه التجارب  خطر وشاق (انظر ص 69 مثلا) ـ جزءا أساسيا من البناء القصصى؛ إذ يشيد هذا البناء، فى غير حالة، على وضع التجارب المستدعاة فى مواجهة تجارب راهنة، كما يتمركز عالم بعض القصص على رصد المآل الذى آلت إليه، فى الزمن الحاضر، أحلام الماضى القديم. وفى هذا السياق تلوح فكرة “التغير” ـ الذى قد يقارب حد “التحول” ـ فكرة أساسية فى تناولات بعض قصص الكتاب؛ فتترى عبارات تشير مثلا إلى هواية “رومانتيكية” قديمة كان يتم الاهتمام بها فى تلك “المدينة التى كانت جميلة” (انظر الكتاب ص 58) أو إلى لحظة من “لحظات العمرالجميل” (انظر الكتاب ص 59)، كما تغدو فكرة “التغير” أو “التحول” هى العنصر المهيمن على بعض قصص الكتاب (من ذلك قصة “غزلان” وقصة “لمهر”، وقصة “أرانب مسحورة).

   ـ 7 ـ

تأسيسا على هذه الطرائق والتقنيات، وعلى هذه “التيمات” والملامح، وعلى تلك “المراوحات”، تنهض مغامرة السرد فى (حيوانات أيامنا)، لتبلور عالما حفيا بما يدهشنا، وبما “يعلمنا”، وبما يصدم توقعاتنا، صدمات خفيفة حانية، وبما يجعلنا نتساءل ـ فى البدء وفى الختام ـ حول “موضعنا” أو “موقعنا” فى ذلك “التراتب” الذى شيدناه ومنحنا فيه أنفسنا مكانة أفضل المخلوقات، بل بما يجعلنا نتشكك فى “تصورنا” ـ أم أقول: فى “توهمنا”؟! ـ الذى يجعلنا نعتقد أننا الوحيدون الجديرون بنعمة الحياة فى هذا الكون الفسيح.

(*) محمد المخزنجى، (حيوانات أيامنا ـ كتاب قصصى)، دار الشروق، القاهرة، 2006.

أضف تعليق