أرشيف التصنيف: الحديقة الخلفية

محتوى ثقافي متعدد المعارف والمجالات

القاهرة.. صخب الحياة. بقلم: سيد الوكيل

هل تظن القاهرة مدينة، مثل كل مدن العالم؟

اسمعني جيدًا: أنا ولدت وعشت عمري الذي جاوز الستين في القاهرة، أنا كتبت عنها قصصًا وروايات، تفقدت شوارعها وحواريها وأزقتها، لعبت الكرة مع الأولاد تحت كباريها، دخنت الشيشة وشربت الشاي الأسود على مقاهيها، حملت كاميراتي وصورت ملامحها المتقلبة، فملامح الصباح غيرملامح الظهيرة والليل. حتى الغرباء الذين يعيشون في القاهرة يقولون: القاهرة في الليل مدينة أخرى غير تلك التي نراها في النهار. الذين عاشوا فيها عمرهم-مثلي- رأوا أكثر من ذلك: رأوا حزنها العميق يوم مات عبد الناصر، وخوفها مما تخبئه الأيام يوم مقتل السادات، وغضبها العارم يوم إسقاط مبارك. وبعد كل ما عشتُ وشفتُ –صدقني- لا أجرؤ على أن اقول لك أنني قد فهمت القاهرة. بل اسمح لي عزيزي الذي لم تزر القاهرة أن احذرك: القاهرة ليست مثلما تراها في أفلام السوبكي: شرذمة من البلطجية والمدمنين، ولا هي واضحة على هذا النحو الذي نراه في مسلسلات أسامة أنور عكاشة (مجرد تكوين طبقي قلق يغلب عليه الصراع الاجتماعي). ولا هي كما في روايات نجيب محفوظ، خمارات قديمة، ونساء ليل، وأفندية مأزومين وجوديًا.. هذه مجرد صور ذهنية ونمطية عن القاهرة، هل تعرف لماذا؟

استمر في القراءة القاهرة.. صخب الحياة. بقلم: سيد الوكيل

شهادة أدبية للشاعر الكبير: عاطف عبد العزيز

من مأساة آل عاكف في رواية ” خان الخليلي ” بدأت سكتي إلي الحزن، كان ذلك في طفولتي الفقيرة التي خلت من المتع التي عرفها أطفالي فيما بعد.

فهناك في شوارع الزيتون – الحي القاهري الذي يجسد البرجوازية المصرية في شرائحها الصغيرة إبان ستينيات القرن الماضي – مشيت بركب مجروحــة من أثر لعب الكـرة حاملاً أشواقي؛ الملاح التائه، وراء الغمام، الأيام، ألف ليلة وليلة، وكتاب العصيان لهنري ثورو.

وكما خذلتني الجيوش العربية حين عادت مكسورة عشية يونيو 1967، خذلتني بعد ذلك ابنة الجيران التي كتبت الشعر من أجلها، تزوجت الحبيبة فألقيت مكتبتي من النافذة .

في الجامعة، أعادني ديوان ” العهد الآتي ” إلي الشعر مرة أخرى، كي أراوح بين صلاح عبد الصبور وأمل دنقل في ترددي الدائب بين الحزن والغضب . وعبر سنين طوال كتبت قصائد كثيرة كي أقرأها فقط علي أصدقائي، تلك القصائد التي لم تعرف طريقها إلي النشر إلا فيما ندر لأسباب لم أعد أذكرها الآن، ربما كان الأمر حينها لا يشغلني .

في شتاء 1992 قالت لي فتاة سمراء بينما هواء الليل البارد يطّير منديلي علي كوبري الجامعة : بالأمس حلمت بك، فنشرت ديواني الأول ” ذاكرة الظل “، واستأنفت سكتي إلي الحزن .

ثم ذات مساء رطب من صيف عام 1993، قادتني المصادفة إلى قراءة قصيدة اسمها ” المرآة في القاعة ” لأجدني أقفز في الهواء، كانت القصيدة للشاعر السكندري اليوناني ” قستنطين كفافيس”، وكان المترجم  -علي ما أذكر- هو البارع الفنان ” بشير السباعي ” الذي كان قد قام نقلها إلي العربية عن ترجمة فرنسية للنص الأصلي الذي كان قد كتب باليونانية بطبيعة الحال، أتذكر الآن أنني حبن انتهيت من القراءة برقت في ذهني العبارة التي دأب البعض علي نسبتها إلي ت . س . إليوت .. ” العالم قبل القصيدة ليس العالم بعد القصيدة ” .

نعم .. وقعت في أسر هذا الشاعر السكندري الفاتن شديد البساطة، شديد العمق، بليغ الأثر، لأجدني مشدوهًا حيال هذه الشعرية الفارقة التي جعلتني أري العالم علي نحو مختلف، وجعلتني أعيد النظر إلي ما حولي بكثير من الدهشة، كأنما أستعيد حواسي الضائعة من جديد.

أدركت منذ تلك اللحظة البعيدة كم أضعت من الوقت، وسألت نفسي كيف أمكن لهذا النص أن يخترق حاجزي اللغتين والثقافتين المختلفتين هكذا محتفظًا بطاقته الشعرية الفذة علي هذا النحو، مع تسليمنا المبدئي بأهمية دور مترجم فنان يحمل وعيًا إبداعيًا خاصًا مثل بشير السباعي، كيف تم هذا في غيبة الوزن، وغيبة الأشكال والقوالب الصارمة التي ظلت تلعب دور الحدود الفارقة بين الشعر والنثر، لينتصب السؤال الذي سوف يتبعني فيما بعد، من أرض إلي أرض: أين يكمن الشعر؟

وعلي جانب آخر، وفي الوقت نفسه، كنت أرى تلالاً عالية من النصوص التفعيلية التي يكتبها الشعراء من حولي وهي تتراكم دون إنجاز حقيقي سوي التكريس لعزلة الشعر عن الإنسان، وبالطبع بقيت هناك استثناءات قليلة لشعراء كانت لتجاربهم وضعيات خاصة مثل أمل دنقل، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، بالإضافة إلي جيل الرواد الذي كان قد غادر دنيانا مثل عبد الصبور، والسياب.

أذكر في ذلك الوقت البعيد، أنني توقفت عن الكتابة لفترة من الوقت لم تكن بالقصيرة، بل انتابني شعور قوي بأنني لن أستطيع الكتابة ثانية مشاركًا في تزييف الوعي وفي تظاهرة الإدعاء التي يقودها آنئذ الكثرة من الشعراء، وباتت عودتي مشروطة بالتوصل إلي تفسير لهذه الأحجية، أين يكمن الشعر؟

وفي لحظة نادرة، بدا الجواب لي كما لو كان يكّون نفسه في الأفق شيئًا فشيئًا، بدأت في ترتيب وعيي علي نحو جديد، مؤمنًا بحتمية اكتشاف ماهية الشعر علي ضوء تلك الترتيبات والقناعات الجديدة، تلك التي كانت تتأسس تلقائيًا فوق بعضها البعض.

أولا” :

الشعر هو ذلك النص الذي يجعلنا نعيد اكتشاف العالم من حولنا كما لو أننا نراه للمرة الأولي، ويجعلنا نستعيد حواسنا، التي نكون قد فقدناها بفعل التكرار، وبفعل الخضوع للخبرات الذهنية التي وصلتنا جاهزة عبر الآخرين دون اختبار فعلي، أي أن الشعر هو النص الذي يقدم لنا العالم الذي تحسسناه، لا فكرتنا عنه.

يمكننا أن نزعم – والأمر كذلك – أننا سنكون حتمًا حيال شعرية تعتمد المشهدية، بديلاً للصورة الشعرية التقليدية، والمشهدية هنا تصبح بديلاً منطقيًا مناسبًا لشعرية تعلي من شأن الحواس، وتقارب العالم عبر البصر والسمع والملامسة، شعرية تعترف بحضور العالم داخل النص، شعرية بوسعها مجابهة طوفان التشيؤ الذي ظل يجتاح حياة الإنسان منذ ربما الثورة الصناعية إلي اليوم، وهي مجابهة حقيقية تتم في الميدان الصحيح، وهو عالم الأشياء، وليس بالفرار إلي عالم المطلقات المقدس الذي طالما احتكر الشعر تحت وطأة القناعة السائدة بأن الواقع المعيش ليس جديرًا بالشعر ولايخص الشعراء، إنما هو يخص التجار، والساسة، وعمال المناجم .

والمشهدية من هذه الزاوية، تعد إيمانًا بالإنسان العادي الذي كان مطرودًا من جنة الشعر، واحترامًا لسعيه اليومي، واحتفالاً بأشيائه الصغيرة التي هي بوابته إلي التفكر في الكون وأسئلته الكبري، إنها مصالحة للإنسان مع الشعر.

المشهدية أيضا كانت التفاتًا حتميًا إلى تلك العوالم الزاخرة بالمتعة والجمال التي شيدتها لنا فنون النحت، والتصوير، والموسيقي، والسينما، وهي الفنون التي طالما استفادت من الشعر طـوال الوقت.

من تلك الزاوية الجديدة يصبح الشعر موجودًا حولنا، يتنفس في أشيائنا البسيطة، لكنه يحتاج فقط إلي بصيرتنا لاكتشافه، يعود الشعر إلى نفسه، بحسبانه ابن العالم بتفاصيله اليومية، التفاصيل التي هي بطبيعة الأمر العناصر المكونة للمشهد الشعري، وليس بحسبانه ابنًا للغة ونشاطها الذاتي، تلك اللغة التي دأب البعض علي استحلاب طاقاتها عبر أنساق استعارية تصنع بشكل ميكانيكي أفقد المجاز قيمته، وقدرته علي الإدهاش.

ونحن حين نتحدث عن التفاصيل وعن اليومي، فإننا نعلم المزالق الخطرة التي قد يقع فيها الأدعياء والمتسكعون، حين يجعلون من النص الشعري مسرحا لمراكمة النفايات المنزلية، دون الوعي بجوهرية الانتقاء الدقيق لهذه التفاصيل، واختبار قدرتها علي الإيحاء، ودور الوعي بأهمية إعادة ترتيب هذه الجزئيات داخل التكوين الجديد علي نحو ذي مغزى، ونحن هنا لا نصطنع بدعة جديدة، ولا نجتلب من الخارج لكننا نكون فقط قد أنصتنا لتراثنا العربي القديم عندما كان امرؤ القيس يحتفل في شعره بالتفاصيل اليومية من الناقة إلي الوتد إلي روث البعير. ونكون قد أنصتنا أيضا لتراثنا في الأدب المصري القديم الذي كان يتعامل مع المحراث والنهر وصومعة الغلال والطيور المنزلية بمحبة وبتقديس .

ثانيا” :

الشعر لا ينطلق من المواضعات أو المسلمات، لأنه يكتشف نفسه بنفسه، ويبتكر بنيته الإيقاعية في لحظة الكتابة ذاتها، وبالتالي فهو يخاصم منذ البداية كل نظام عروضي جاهز، انه بذلك يجسد الجوهر الصحيح لمصطلح القطيعة مع الماضي، تلك القطيعة التي تقترح أبنية جمالية جديدة فوق أنقاض أبنية فقدت قدرتها علي استيعاب أشواق الإنسان، إنها القطيعة الواعية والقادرة علي التمييز بين الثابت والمتحول في الثقافة، والقادرة علي فتح سماوات الحرية علي آخرها، دون الوقوع في فخ الاستلاب، أو إعادة تدوير قمامة الآخرين.

ثالثا” :

النص الشعري إذن عمل جمالي ومعرفي في آن واحد، أي أنه طريق إلي المعرفة، وليس استعراضا لمعرفة متكونة ككتلة صماء لدي الشاعر قبل الكتابة، لم يعد للتفكير الدوجمائي مكان في هذا العالم، فقد انتهي دور الشاعر المتعالي، النبي، العارف الذي كان يري نفسه مركزًا للكون، ليبدأ دور الشاعر المتسائل الذي يري نفسه من آحاد الناس، والذي لا يملك سوي قدرته علي صياغة السؤال بطريقة صحيحة .

ولأن الشعر كما قلنا هو ابن العالم، لم يكن له أن يظل علي تماسكه القديم في عالم يعاني من حالة سيولة مرعبة، سيولة تجاوزت مجالات المعرفة والمعلومات، إلي الثقافة والتراث والهوية، عالم يفتش عن شكله الجديد منذ انهيار النظام الكوني تحت ضغوط الغرب الأمريكي، ومحاولاته للسطو علي الجغرافيا والتاريخ .

رابعًا:

العروض الشعري ذاكرة ثقيلة، لأن العروض حين يحضر لا يجيؤنا منفردًا بل يصطحب معه تاريخ الشعر، أجل .. حين يحضر البحر الشعري يحتل الحيز الذي كنا قد أعددناه لأرواحنا المرهقة فلا تملك هذه الأرواح ساعتها سوى أن تجلس على حجره، ولا تملك سوى أن تأخذ شكل التجاويف الضيقة التي صنعتها تفعيلاته.

أما الشعر فهو عمل دائم ومستمر ضد الذاكرة التي تعيد استنساخ الماضي، هو ذلك النص الذي يبدأ من الحدس لا من المعرفة، الشعر هو طريقة في مقاربة العالم وفحصه، بل إننا نقول بثقة كاملة إن الشعر هو أحد أهم طرائق المعرفة، باعتباره سؤالاً لا بيانًا.

خامسًا :

العروض العربي ابن اللغة العربية، خرج من رحمها فجاء حاملاً ملامحها كاملةً وجاء مستجيبًا لطبائعها وقوانينها الداخلية، ومستجيبًا لنحوها وصرفها وطرائق الاشتقاق فيها، ومنصتًا لصوتياتها، هذا ما نعرفه ونؤمن به بل أن هذا مما هو معروف بالضرورة.

على أن للعروض أيضًا آباءً أُخَر ينكرهم أصحاب الأفق الضيق، إنهم الآباء الذين ساهموا في بناء هذا العروض وتكوينه، نعني مفردات البيئة التي كانت تحيط بتلك اللغة، نعني التاريخ والجغرافيا، نعني الصحراء ذات الأفق المترامي التي قد يقطع العربي أميالاً في فيافيها دون أن يتغير المشهد في عينيه، والإبل التي تُحْدَى فنخال حداءها نبض الحياة في المكان، ونعني أيضًا تعاقب الفصول، هذا التعاقب الذي لم يكن يقطع تواتره طارئ.

والأن بدورنا نسأل عن مدى ملائمة هذا العروض الصحراوي – الذي جاءنا من خلف ألفي عام – لحياتنا المعاصرة؟! ما مدى استجابته لعالم المدينة في القرن الحادي والعشرين بصخبها وتلوثها وعلاقات الإنتاج فيها؟! وما مدى توافق روحه المطمئنة الوادعة وشكله الدائري مع اضطراب عالمنا وانفجاراته النووية وتآكل أوزونه وانفراط فصوله حتى صرنا نرى الشتاء في الصيف، وحيث لم يعد هناك ربيع من الأساس؟!

العروض إذن ليس فوق المساءلة.

سادسًا:

كثير من الذين يفتشون عن الموسيقى لا يدركون جوهرها على الأرجح، ولا يدركون احتمالاتها التي لا حصر لها ظانين – وبعض الظن جهل – أنها التكرار والتماثل والسيمترية، ويظنون أيضًا أن مجالها الأوحد هو عالم الأصوات غافلين عن أن للمرئيات موسيقاها، وللأفكار والرؤى موسيقاها، الموسيقى تنهمر إذن على المتلقي من حيث لا يحتسب من المعاني والأصوات والصور البصرية، بل تأتي من المسكوت عنه.

لذلك كله بدت قصيدة النثر كطوق نجاة للشعرية العربية، أعني الشعرية التي اقترنت بالمشروع القومي العربي المنهار الذي أفلس تماما عبر إخفاقاته المتوالية، من هزيمة يونيو، إلي اجتياح بيروت، إلي غزو الكويت، هذا المشروع الذي قادته أنظمة فاشية حطمت كبرياء الإنسان علي أرضه.

قصيدة النثر هي التي فتحت باب السؤال من جديد، وفتحت قوس الاحتمالات علي آخره، وبرهنت بأفقها الإنساني الرحب، البريء من الادعاء باحتكار المعرفة، علي أنها الحيوان الصغير الحي، القادر علي بناء المحارات الجديدة بديلاً عن المحارات القديمة التي ماتت حيواناتها، وباتت محض تكلسات فارغة ملقاة علي الرمال.

وقد يعيب البعض على قصيدة النثر كثرة أدعيائها ومتشاعريها، وهذا في ظني أمر طبيعي ويمكننا أن نراه بوضوح في كل لون من ألوان الكتابة، غير أن هذه القصيدة في ذات الوقت تمثل الجزء الحي من الشعرية العربية الآن، الجزء الذي يعد ويحلم، الجزء الذي يحتفل بالضعف الإنساني وفتنته ويعلي من قيمة الاعتراف.

مع ذلك فإننا لا نعطي لأنفسنا الحق في نفي الآخر كما يفعل البعض، فنفي الآخر مسألة قد تجافي الروح المنبسطة لقصيدة النثر، الروح التي تؤمن يالتجاور والتعدد، وترى ما تراه الحداثة في أطوارها المتأخرة من أن العالم ليس سوى معرض مفتوح تتجاور في رفوفه كل منازع البشر وتوجهاتهم.

ربما تفتقر هذه القصيدة للأسوار الحجرية التي ترسم حدودها، لكنه الافتقار الذي يجعل منها جوهرًا للشعر، ويجعل منها ميدانًا صعبًا، يدخله الشاعر أعزل إلا من قدرته علي إعادة تشكيل العالم علي النحو الذي يفجر شعريته الكامنة خلف كل ما نظنه عاديًا أو بدهيًا.

إنها القصيدة التي ترصد صيرورة الإنسان، وتحولاته الخفية عبر أشيائه الهامشية، وتصنع من تناثرات الواقع تكوينًا كاشفًا لمعناه التحتاني.

* * *

مساحات الالتباس في الشعر الشعبي، عند: مسعود شومان. بقلم: سيد الوكيل

في منتصف الثلاثينيات من العمر انتسبت إلى كلية الأداب بجامعة عين شمس، لاستكمال دراستي، التي انقطعت بعد المرحلة الثانوية، بسبب تطوعي في الجيش المصري وبرغبة عارمة لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي وتحرير سيناء.

كنت أشعر بالخجل وأن أجلس بين طلاب تخرجوا من المدرسة الثانوية للتو. لكن هذا الفارق في العمر بيني وبينهم منحنى تميزا في وعيىّ الثقافي لفت انتباه أستاذي الدكتور صلاح فضل رحمه الله، فكلفني بالإشراف على تنظيم ندوة أسبوعية ضمن أنشطة رعاية الشباب بالجامعة. وفيها ألتقيت بالطالب مسعود شومان.

لم أكن أتوقع أن طالبا في السنة الأولى بكلية الحقوق، على هذا القدر من الموهبة في الشعر العامي. لهذا نشأ بيننا غرام فيدرالي ( على رأي فؤاد المهندس) حتى أننا كنا نلتقي كل يوم بعد انتهاء العمل والمحاضرات، لنتبادل دهاليز الإبداع.

منحني الله حاسة سابعة، تجعلني التقط الموهبة من أول نظرة. لكن الطريف أن صحبتي كانت مع الشعراء أكثر من الساردين: محمود الحلواني، مجدي الجابري، أحمد عجاج، مدحت منير، يسري حسان، حاتم مرعي.. محمد عبد المعطي وآخرين كثر. هذا الجيل الثمانيني أحدث نقلة نوعية في الشعر، ربما استلهمها من شعراء السبعينيات، لكن شعراء الثمانينيات أضافوا إليها الكثير، حتى انتهوا إلى قصيدة النثر، التي وجدت معارضة صاخبة من كبار الشعراء وقته كعادة كل اتجاه جديد.

أذكر أن أول مؤتمر لقصيدة نثر العامية أعددت له بنفسي في قصر ثقافة بهتيم المتواضع الذي مثل بؤرة ثقافية مهمة ومؤثرة في هذا الوقت.

أما مؤسس فكرة الملتقى فكان الشاعر مجدي الجابري، الذي وضع القواعد والمرجعيات الأولى لقصيدة نثر العامية، تنهض على الدارج والمعتاد في مفردات الحياة اليومية/ ومقصدها هو: العادي واليومي والمعيش.

مهم أن نؤكد على أن بعضهم خاض التجربة وهو قلقا، مترددا مثل محمود الحلواني، أما مسعود شومان فقد حسم الأمر بديوانه المتميز ( اخلص لبحرك) الذي يضمر رغبة ملحة في الالتزام بالطابع الشعبي بميراثه الكبير والمتعدد مثل: الزجل، المربعات، النميم، الموال، الواو، البجا، الهجينة.. إلخ. وقد تأكد هذا بدراساته التي دخلت في عمق التاريخ، والبيئات الشعبية، التي لم تقف عن حدود الشعر فحسب، بل العادات والتقاليد واللغات واللهجات والتمايز فيما بينها، وهو يتقصى الدقة حتى أنه يتوقف عند مظاهر لغوية تؤكد وعيه بمساحات الالتباس في انواع الشعر الشعبي…

في ظني، أن لهذا الكتاب أهمية خاصة بين كتب الشاعر والباحث في الشعبيات: مسعود شومان. فعلى الرغم من أنه مجموعة أبحاث ودراسات قصيرة في فنون القول الشعبي، إلا أن ثم رابطًا موضوعيًا ينظم هذه الأبحاث، وهو الإلحاح على مستويات الوعي الذي يسري في البنية التحتية لثقافتنا، تلك التي تبدو من قبيل المهمش والمسكوت عنه، لكنها تعمل بقوة على تشكيل الكثير من الظواهر الثقافية التي تطفو على السطح، وتجسد قدرتها على التفاعل مع المستجدات، على الرغم من ارتباطها العميق بالموروث. إنها ظواهر تتجلى في الأغاني الشعبية، والعبارات المكتوبة على وسائل المواصلات، والملصقات التي تحمل وجوها لمطربين ولاعبي كرة قدم ودعاة، أو عبارات انتزعت من الأغاني الشعبية أو من الأفلام والدراما التلفزيونية، وتبنتها الجماعة العشبية، وأدخلتها في معجمها الواسع، فأصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية. كل هذا يشير إلى أن مفهوم المؤلف ( مسعود شومان) للوعي الشعبي، مرتبط بالتجدد  والتنوع في مصادرة، بل هو وعي حيوي ولا يتوقف عن إنتاج ثقافته لحظة واحدة. لهذا، فالكتاب -في تقديري- بمثابة مقاربة فلسفية أكثر منه متابعة أو رصد لمظاهر الثقافة الشعبية.

وغير الظواهر المستجدة، هناك وقفات تحليلية، تتلمس مواطن الجمال في فنون القول الأكثر قدمًا، تلك التي تضرب بجذورها في عمق الوجدان الشعبي، أهمها فنون الشعر الشعبي مثل: الموال والمربعات وغيرها. معنى هذا، أن الكتاب يشتغل على مساحة واسعة من الإنتاج الثقافي للجماعة الشعبية، ومن الطبيعي أن هذه المساحة تعكس مشتركات عديدة، على الأقل لمرجعيتها الأولى التي تعود إلى وعي ووجدان تلك الجماعة، لكنها في نفس الوقت تتحسب من الاعتقاد بأن الجماعة الشعبية شيئًا واحدًا كالبنيان المرصوصً. فيأخذ ( الكتاب) في الاعتبار أن هذه المساحة مشغولة بالمفارقات والمخالفات والتشابهات أيضًا، تلك هي طبيعة الفعل الثقافي الشفهي الذي يخضع للتعديل والتحريف والتنقيح مع كل رواية. أو إن شئنا الدقة، مع كل ( قول). وإذا وضعنا في الاعتبار عامل الزمن، والاختلاف في طييعة البيئة المنتجة للنص الشعبي، نكون أمام فضاء شاسع من التعدد الذي يفضي إلى مساحات الالتباس.

لكن معنى الالتباس في ذهن مسعود شومان لا يتوقف عند هذا المستوى البدهي، بل يتجاوزه إلى قراءة الالتباس الفني بوصفه ظاهرة أسلوبية ينفرد بها النص الشعبي القولي في المواويل ذات الجناسات الكثيفة و كذلك في المربعات وفن الواو وغير ذلك من فنون الشعر الشعبي. إذ كيف يمكن التماس العمق التاريخي للوجدان الشعبي في الإشارة الذكية أو المضمرة لبراءة السيدة عائشة رضي الله عنها في الحكاية المعروفة بحديث الإفك، على نحو ما يلمح الشاهد التالي دون انتباه إلى مراوغات المعنى فيه عبر عمليات من الدمج والإدغام والحذف:

باب السما ما انطلعشي ( لم يطلع عليه)

وفيه زي ما انت طالب

غير النبي ما انطلعشي ( ما طال عائشة)

محمد حبيب الحبايب  

فبين (ما انطلعشي) في البيت الأول ومثيلتها في البيت الثالث، مساحة من الالتباس الشكلي، يمكن إدراكها  صوتيًا عبر أداءات المنشدين(الشعراء) من خلال السكتات والوقوف على الحروف أو النبر والتنغيم وغير ذلك من الحليات الصوتية التي تمكن الشاعر من الإيماء إلى المعنى وتسهم في فض الالتباس. ويحتاج هذا إلى أرضية ثقافية مشتركة بين المتلقين ( الجماعة الشعبية)، التي هي مناط الوعي المنتج للمعنى على نحو ما يشير الكتاب في عنوانه. فالحيل الفنية في القول الشعبي، قد لاتصرح بالمعنى، وتكتفي بالإحالة أو الإيماء إليه، ولكنها لا تسمح بالتأويل المفرط. بما يعني أن الالتباس هو تقنية تقف عند حدود الأداء الصوتي، نوع من اللعب اللغوي، وظيفته لفت الانتباه إلى جاذبية المعنى وليس تشويهه. غير أن وظيفته الأعمق جمالية، فالشاعر المجيد يتميز بقدرته على امتلاك الكثير من الألعاب اللغوية شريطة ألا تأتي مصطنعة، لأن الاصطناع يفقدها وظيفتها الجمالية. وفي هذا المعني يتساءل مسعود شومان: ( من يا ترى الذي يستبدل العنب بالخيار؟) مشيراً إلى قول الشاعر عادل صابر:

المولى خلقك مخير

وجعل في يدك خيارك

وأنت اللي بيدك تغير

وتخلي عنبك خيارك

اما المستوي الموضوعي من مستويات الالتباس، فتلك التي تتعلق بتصورات ذهنية تشيع في الوعي الجمعي، وتظهر في موضوعات بعينها، فمثلًا، عندما تصبح الأنثى موضوعًا للنص الشعبي، فإن الصورة الذهنية الشائعة عن أن الجماعة الشعبية تنحاز لإنجاب الولد، تطغى على المعنى العميق. لكن اختبار النصوص بالتجاور يؤدي إلى نوع من التراسل الدلالي فيما بينها، عندئذ قد نقف على المعنى الأدق أو الأعمق للنص. فالجماعة الشعبية -على عكس ما هو شائع- قد تنحاز للأنثي في بعض المواضع، بل وتفضلها عن الذكر، فالبنت تعين أمها في شئون البيت، وتدخل رجلًا جديدًا في العائلة فيتسع سلطانها، بينما قد يكون العكس صحيحا مع الولد:

يوم ما قالوا ده غلام

قلت يا ليلة ضلام

اكبره واسمنه

وياخدوه منى النسوان

لكن أهم فصول هذا الكتاب الممتع المفيد، هو الذي يتعلق بلغة الشارع المصري التي يصفها بانها لغة سرية، لأنها لغة تتأبى على المعنى الظاهري، ولكنها تنحت لنفسها دلالة واسعة الانتشار، وهي ما نسميها لغة الروشنة. غير أن فهم الظواهر الثقافية للشارع، تستدعي – بالضرورة- إعادة النظر في مفهوم الشارع، ليصبح أكبر من المفهوم الجغرافي الضيق، متأثرا بوسائط الاتصال الحديثة التي كسرت الفكرة القديمة عن عزلة الإنسان في الشارع إذا خرج من بيته ( من خرج من داره.. انقل مقداره). هكذا لم يعد الشارع هو الخارج، إننا – في الحقيقة- نحمله معنا إلى بيوتنا كما نحمل بيوتنا معنا إلى الشارع، إن معاني مثل: الداخل والخارج، أو الخاص والعام، أو المكان والزمان، تتعرض لهزات عنيفة في الوجدان الشعبي بفضل التكنولوجيا.. هذه إشارة إلى أن الجماعة الشعبية، أصبحت في حالة من التفاعل الثقافي الذي يضطرنا إلى إعادة النظر في الكثير من المفاهيم بما فيها، مفهوم الثقافة، بل ومفهوم الجماعة الشعبية نفسه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مساحات الالتباس والوعي بالنص الشعبي

المؤلف: مسعود شومان

من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب

عودة مواطن إلى بر مصر. بقلم: سارة قويسي.

“هدفي الأساسي أن أعمل فيلما تتلقاه كل العيون، خصوصا عين ابن بلدي. لذلك يتهموني بأنني أصنع أفلاما (خواجاتية) وشكلية. وحقيقة الأمر، هو أن عيوننا لم تتعود بعد أن تكون الكاميرا هناك، لأنهم يريدونها في مكانه الدائم. وعندما غيرت قليلا مكان الكاميرا، قالوا: هناك نوع من الغربة بالنسبة للعين. إيماني كبير بأن عين المتفرج ستعتاد على هذه اللغة السينمائية، وباالتالي سيصبح الأمر طبيعيا”.

(محمد خان، مخرج على الطريق).

ذات مساء اقترح صديق عليَّ أن أشاهد فيلم (عودة مواطن) لمحمد خان كنوع من التغيير في ما أشاهده في الفترة الأخيرة، ومحاولة لرؤية جذور واقعنا من منظور قديم نسبيا. ربما نجد سبيلًا لحل كل تلك المعضلات التي نمر بها. وقد كان الفيلم اجتماعيا واقعيا من الطراز الأول، يحكي حياة مواطن مصري عادي أجبرته الظروف على أن يغترب عن بلده في نهاية السبعينيات، من أجل الرزق، ولقمة العيش، والزواج… وحين عاد في منتصف الثمانينيات يصدم من كل شيء، فكيف تغير المجتمع في تلك السنوات؟ وكيف تعايش شاكر –البطل- مع هذا الواقع؟!

شاكر يملك من الأخوة عددا لا بأس به بالنسبة للأسرة المتوسطة الحال، التي تعيش في منزلها الخاص، في ضاحية حلوان. له خال هزمته الحياة، وعدد من الأخوة، ورغم تخليه عن دوره في فترة سفره للخليج، يسعى بعودته أن يعوض إخوته عن السنوات الماضية، وأن يقوم بدور الأخ الأكبر الذي يلوذون إليه في محنتهم، وهنا تبدأ تفاصيل الحكاية.

يبدأ الفيلم بمشهد عودة شاكر إلى مصر وحيدا لا ينتظره أحد في المطار، ويذهب إلى أخوته ليسعدهم بحضوره.

تحتفل فوزية، الأخت الكبرى، بعودته، ونفهم مبدئيا أنها قد فاتها قطار الزواج أثناء اهتمامها بإخوتها، ثم تتصاعد الأحداث ونجدها تتقبل مساعدة من مال أخيها، وكأنها تأخد (نصيبها) عوضا عن خدمتها لإخوتهم في غيابه. ورغم أن مقدمات الشخصية قد توحي بعكس ذلك، نجد فوزية تستقل وتبدأ في ممارسة حياتها بصورة مختلفة.

ونجوى، الأخت الصغرى، التي تنسجم مع واقعها الاجتماعي وتتفاعل معه وتعيشه بكل تفاصيله المرهقة ببشاشة مدهشة. فهي الفتاة خريجة الجامعة التي تعمل مضيفة في أحد الفنادق، وترفض تدخل من حولها في خصوصياتها، وتحب زميلها في العمل، وتبني معه عش الزوجية وتختار الشقة دون أن تبلغ أحدا.

وإبراهيم، شقيقهم الأوسط، الذي يعيش حالة من الإحباط والاكتئاب، وعند تخرجه من الجامعة جلس في المنزل لا يفعل أي شيء سوى انتظار خطاب القوى العاملة، وتسيطر عليه المخدرات حتى يكاد أن يفقد حياته لولا تدخل خاله في الوقت المناسب، ومحاولة أخيه شاكر انتشاله من براثن الإدمان، ليعود منتظرًا أن يضع أحدهم نهاية لمعاناته.

أما مهدي، شقيقهم الأصغر، الذي يربي الحمام، ولكنه في حقيقة الأمر ينتمي لتنظيم سري، ويشبه خاله الذي أضاع شبابه على العمل السياسي ولم يتزوج.

في هذا الفيلم يوجه الراحل محمد خان النقد الدائم لسلبية شخوص الفيلم، رغم أنه يرى شخصياته من منظور أخر، فهو يقول: “إن شخصياتي نبيلة وتريد تحطيم القيود التي تكبلها في حياتها اليومية.. حتى الموظف الذي أصوره في أفلامي موظف ثائر على وضعه ويسعى للخروج من حالة الركود التي يعيشها”. فهل كانت الشخصيات ضحية للتغيرات التي جرت في المجتمع المصري بعد الانفتاح الاقتصادي؟ ربما!.. ولكن سنحاول أن نجيب على هذا التساؤل الذي طرحناه.

سلبية الشخصيات تجرفهم في تيار المجتمع وتجعلهم رغمًا عن اختلافهم إلى حد كبير جزءًا منه، ففوزية تقرر أن تتحرر فجأة من كل شيء وتبدأ مشروعا لبيع الحلويات، فهل كانت راضية عن حياتها السابقة، أم أن بذور ذلك كانت موجودة لديها منذ البداية وكانت تنتظر اللحظة المناسبة؟

ونجوى المتمردة بطبعها المتأقلمة مع وضعها داخل المجتمع، والمهم أن تنجز أهدافها، وهذا عكس إبراهيم الأخ الخاضع الخانع لكل شيء يسير حيثما يدفعه التيار، تارة هو شاب مدمن لا يقوى على فراق المخدرات، وتارة هو جالس في البلكونة يتأمل السماء في شرود، أو يلعب الشطرنج. أما مهدي الصغير فقد يكون الاستثناء فيهم، لكن ما هو مصيره؟ هل نتخيله الآن يعيش مهزوما كخاله؟

 وشاكر الذي يهرب من المواجهات، فهو رغم دراسته للقانون يخاف من دخول قسم الشرطة، ويتجنب لقاء خاله المعتقل السابق، نجده بحث عن حياة جديدة بالاغتراب ولو كان ثمن تلك الغربة هو أن لا يعرف نفسه داخل أسرته ومجتمعه، وقد ظن أن المال سيحل كل المشاكل، لكن الأمور لا تسير على هواه، وحلم العائلة يتفتت من بين يديه. هل تعلم شاكر الدرس؟…

 مشهد النهاية يحمل تفسيرات عديدة! لكن محمد خان سعى لتحليل طبقات المجتمع وخاصة الطبقة المتوسطة التي تكاد أن تختفي بطريقة مختلفة، وهي وإشراك المتفرج في ذلك، فهو يريد أن تأتي الإيجابية من المتفرج بعد لوم سلبية شخصيات الفيلم التي هي جزء من الواقع الفعلي لحياة المصريين.

ولكن تلك الإيجابية لا تنقي المعاناة، فمازالت المعاناة تعصر تلك الطبقة وتنقلها كل يوم من حال إلى حال، في ظل أوضاع اقتصادية مرعبة. ولكن رغم ذلك يقول خان: “عامة أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن ستعجبهم لوحته؟”.

قصتان. بقلم د. محمد حسن غانم

“إسرائيلي”

الدماء تغلي والعروق تنتفض النفوس وتتألم والخوف يلتصق بنا. شهيقاً وزفيراً كان ذلك إبان فترة النكسة وكانت قريتنا قريبة من منطقة أبو زعبل وقد حدث – آنذاك أن أخذت الطائرات الإسرائيلية تعربد وتصول وتجول في الأجواء المصرية حتى ضربت مصنع الحديد والصلب في أبو زعبل الرعب عاش هناك كضيف ثقيل الأنوار تطفئ زجاج النوافق يطلي بالأزرق حتى لا تكتشف الطائرات أن في هذه المنطقة أفراد أحياء وقد حدث أن “أحمد أبو عبد العاطي قد انتهي لتوه من بناء دار جديدة ملاصقة تماما للحقول نام تلك الليلة فيها إلا أنه استيقظ والليل يتوغل ولا يدري كم مضي من الوقت إلا بمغص يفتك بأحشاءه وضع كلتا يديه على بطنه وبسرعة الغريزة خرج إلى الحقل المجاور ليقضي حاجته لا يدرى كم مر من الوقت حتى لمح شبح “يبدو أنه عسكري يسير بالقرب منه متلصصاً محتمياً بأعواد الذرة في الظلام الدامس فتح عينيه جيداً كتم أنفاسه كاد الدم أن يتوقف في عروقه هو عسكري ولا شك في ذلك انتظر برهة مرت عليه كالدهر الحزين ثم هرع سريعاً وما أن لمست يده باب داره الخشبي حتى صرخ من أعماقه إسرائيلي يا رجالة ثم أغمي عليه تماما ولا ندري كم مر من الوقت ولكنه على أي حال وقت لم يكن بالطويل حتى خرجت القرية عن بكرة أبيها وكل فرد فيها محمل بالعصي والسكاكين والمطاوى أو أواني الطعام وأخذ يحرك هذا الجمع المتلاطم اللاشعور الجمعي انتابتهم رعشة أخذوا يصفرون بكل قوة أسرع أحدهم إلى ضابط نقطة شرطة القرية أخرج كل العساكر وكانوا ثلاثة وأخذ يهرعون هنا وهناك وفي أيديهم بنادق قديمة بالية فارغة من الرصاص والضابط يتجول بحصان أبيض والناس يهرعون هنا وهناك لا تسأل كم أتلفوا من المزروعات ولكنهم أتلفوا الكثير ركضوا في كل الاتجاهات لا تسمع آنذاك إلا الرغبة الصادقة في الإمساك بتلابيب هذا العسكري الإسرائيلي وكل فرد يتحيل أنه قد هبطت لهدم منزله أو قتل أبنه أو اغتيال أمنياته الضابط يحاول تهدئه النفوس أسرع إلى التليفون القديم اتصل بمدير الأمن أسرع مدير الأمن بنفسه إلى منطقة الأحداث الجميع تركو منازلهم ويهرعون في كل الاتجاهات فشلت قوات مدير الأمن في تهدئة النفوس والسيطرة على الناس اضطر مدير الأمن أن يبلغ بنفسه شخصياً وزير الداخلية أتت قوة من الوزارة كانت النساء تجرى ويحملن أطفالهن الرضع بيد وفي اليد الأخرى عصيى أو سكين أو عطاء آنية طعام ثم استطعت أنا أخيراً وقبل أن تأتي قوة أمن الوزارة أن اكتشف هذا العسكري كان خائفاً متسللاً في حديقة برتقال الباشا هرعت خلفه وبيدي سكين وبيني وبينه عشرة أمتار تقريباً يرتدي ملابس صفراء على رأسه خوذة حديدية وحذاء أسود برقبة كانت هذه الملابس غير مألوفة لي دق قلبي دقات ملتاعة إذا اقتربت منه ربما قتلني بالموت لم أبالي عندما اقتربت المسافة وأصبحت قاب قوسين أو أدني توقفت تماماً صرخ من أعماقه أنا لست إسرائيلي أنا عسكري مصري توقفت أنا الآخر تماماً  عقلي يعمل بسرعة الضوء بدأ الشك يتسرب إلى وأنا أبن الخامسة عشرة كنت أتصور الإسرائيلي على الأقل لا يتحدث نفس لغتنا لا أعرف أي شيء فقط كنت امتلك مساحات شاسعة من الحقد والعداء لكل هؤلاء الناس الذين يغتالون الأمان ويزبحون الأحلام عندما اقتربت منه وأنا أحاول أن أخفي جاهداً ظلت السكين متثبتة بيدي وبيدى الأخرى أمسكت به أوسعته ضرباً وركلاً لابد أن أصدق عقلي عند ذاك أدركني الجميع قوات الشرطة أخذته إلى النقطة ذهبت به من طريق آخر شاهدت جزءاً من التحقيق معه وزير الداخلية بنفسه يحقق معه وكل رجال الشرطة.

وحكايته باختصار أن هذا العسكري من قرية مجاورة لنا ولقد وصله منذ أسبوع خطاب من حبيبته أو أبنت خالته” أن والدها مصر على زواجها رافضاً الانتظار قاذفاً بوعوده في البحر الميت وقد أقسم بالطلاق إذا لم يتم الزواج خلال هذا الشهر فلن تتزوج به حتى إذا انطبقت السماء على الأرض وقد استأذن من العريف في يومين فقط ويحاول أن ينهي هذا الموضوع أما أن يقترن بها ويدخل بها بالفعل أو على أسوء الفروض يحرر قسيمة الزواج دون الدخول بها ثم انتظر حتى جني الليل وجاء متلصصاً عبر الحقول حتى فوجئ بهذا الأعصار الذي أذهله وأرعبه ظن فعلاً أن إسرائيلي قد نزل القرية إلا أنه شعر بغريزته أنه هو المقصود انسحبت أنا خارجاً والفجر تلوح بشائره في الآفاق والناس مازالت تهرع هنا وهناك الخفراء والعساكر يحاولون تهدئتهم وأنه لا شيء بالمرة ولكن ذهبت كل هذه المهدئات إدراج الرياح حتى والدى نفسه أصر على أن ننام في غرفة الفرن وأن نغلق الباب من الداخل جيداً وأصر على أن ينام خلف باب دارنا الكبير مدججاً بالعصي والسكاكين وبعض أواني الطعام أقسم له أنه لا إسرائيلي ولا يحزنون ولكنه صرخ بي أن أنام واصبحت وأن هذه الأمور والمساءل لا أعرفها وفي صباح اليوم التالي اكتشفت أن كل الرجال في قريتنا فعلوا نفس ما فعله والدي وظلوا على هذا الحال شهور أحاول طمئنتهم ولكن لا أحد يستمع لي حتى الشيخ عبد الوهاب بنفسه – واعظ المسجد الوحيد في قريتنا – كف عن مهدئاتك ولن يستمع أحد لك المأساة يا ولدي أن الكبار يكذبون ولم أفهم ما يقصد بذلك ولكني صمت.

“العودة إلى الأضواء”

منذ فترة وبالتحديد في النصف الثاني من العقد السابع من القرن الماضي طغت هوجة كتابة المذكرات السياسية لرجال الحكومة السابقين وكان عبد الوهاب الشال يتابع كل ذلك بتقزز إذ أن القاسم المشترك في كافة المذكرات التي أطلع عليها أن الكاتب يتحول فجأة إلى بطل يدير الدفة يعارض الرئيس برفض بعض القرارات وكان كلما تذكر مذكرات عدنان الويشي” وزير الداخلية الأسبق يكاد أن يستلقي على قفاه من الضحك لأنه كان زميله في الوزارة وكان يصاب بنوبة من الثأثأة والفأفاة حين يتحدث إلى رئيس الوزراء آنذاك وكان يتحول لونه إلى لون الأموات حين يكون في حضرة السيد الرئيس فما بالك بالكلام! ها هو ذا يصول ويجول في مذكراته يعارض ويناقش بل ويترك الاجتماعات ويخرج غاضباً من قاعة الاجتماعات إلى الحديقة والرئيس بنفسه يذهب إليه يتعطفه ويرجوه ويتوسل إليه أن لا يغضب وأن يتغاضي عن رأيه في هذا القرار وهو يرفض وبأصرار حتى دخلت عليه زوجته صباح ذات يوم وفي يدها الجرائد اليومية القومية الثلاثة ألقتها في وجهه وهو مستلقي على السرير صارخة فيه

  • ألم تكن وزيراً في يوماً من الأيام.
  • نعم
  • ألم تكن وزيراً للتموين؟
  • بلي والتجارة الخارجية أيضا
  • ألم تتولي الوزارة في مرحلة حرجة
  • مرحلة أطلقت عليها عدة مسميات تارة مرحلة النكسة وأخرى مرحلة الهزيمة وثالثة حالة اللاسلم واللاحرب.
  • فلماذا أذن لا تكتب مذكراتك؟
  • ولكنها وزارة في الظل.
  • نعم يا حبيبي آكل الناس وشربهم بتسمية ظل.
  • نعم أنت تعلمين جيداً مصير الآكل والشرب بعد الهضم.
  • ولكنك كنت وزير للتموين.
  • ماذا أقول للناس هل أحكي لهم عن حصص الزيت والسكر والشاي والصابون وكوبونات الكيروسين.
  • أليست هذه الأشياء عصب الحياة وإذا اهتزت فسد كل شيء. أدرك بغريزته أن مواصلة الجدل عمل انتحاري فوعدها خير وسيفكر في الأمر وعليها أن تعطيه الفرصة لكي يرتب شتات أفكاره.

لقد ترك الوزارة منذ عشر سنوات لا يتذكر أي شيء فماذا يكتب للناس والتاريخ أن الأخطاء البشعة في حياته تتلخص في أمرين:

الأول توليه الوزارة في مرحلة حرجة والثاني هو زواجه من هذه المرأة الحادة السليطة اللسان وكان زواجه منها نتيجة لتوليه منصب الوزير إذ أن زوجه الأول كانت لا تصلح للظهور معه في المقابلات الرسمية كانت أبنة عمه وكانت حاصلة فقط على الشهادة الاعدادية وكانت ست بيت ممتازة لا تتحدث إلا في الطهي فقط ثم قفزت معه الأحداث فجأة وبدون مقدمات إلى قمة السلطة فما كان عليه إلا أن يواري الزوجة الأولى في الظل ويقترن بسوسن هذه ولكن عيبها الوحيد العصبية وعدم الاقتناع حتى دخلت عليه ذات يوم حجرته قائلة له

  • ألم يحين الوقت لكي تكتب المذكرات.
  • مازلت افكر يا سوسن.
  • انظر وزير الحكم المحلي والإدارة المحلية السابق ينشر مذكراته وهاك الحلقة الأولى منشورة في الصفحة الثالثة في جريدة الأهرام.
  • ربما يتحدث عن قوانين الإدارة المحلية.
  • وأنت ألم يكن لوزارتك قوانين
  • نعم كان لها
  • فلماذا إلا تذكرها
  • مذكورة في كتب القانون
  • صغها صياغة أدبية وأن كان أسلوبك ركيك وهو بالطبع كذلك فلماذا لا تذهب إلى أحد المحررين ليصيغها لك.
  • أنها إهانة
  • أنت الذي تهين نفسك وتهينني.

في المرة السابقة أدرك أن مواصلة الجدل معها بلا جدوى أقسم لها أنه يفكر في الأمر وعليها أن تحضر له الأوراق والأقلام كي يبدأ في القريب العاجل في الكتابة والنشر وكالعادة قذف بالفكرة في الجب العميق ومارس حياته العادية ولكن الإلحاح جعله يقتنع أن المماطلة لا تفيد ففكر في الأمر جدياً وضمها ذات ليلة باردة إلى صدره ولكنها تمنعت غاضبة منه وذكرته بضرورة كتابة هذه المذكرات هذه المرأة يكره عصبيتها وإلحاحها ولكنه في داخله يعشقها إلى درجة الابتلاء فكر جديا في الأمر وقال لها

  • لكي اكتب مذكرات لابد أن أعود إلى الأضواء
  • كيف ذلك
  • أن يعاد ذكر أسمي في الجرائد حتى تتذكره الناس
  • وماذا يفيد ذلك
  • دعاية جيدة للمذكرات
  • ولكنك لم تكتبها بعد
  • عوده الاسم إلى الأضواء سيكون أكبر الدوافع لي وللنشر
  • ولكن كيف ذلك؟
  • دعيني أفكر في الأمر

ذهب مساء اليوم التالي متلصصاً بالظلام إلى عرب النجد لكي يقابل الحاج عمران طالباً منه أن يتخفي في الظلام ويطلق عليه عدة أعيرة نارية ولكن بشرط أن تصيبه فقط فكر عمران في الأمر واعتبر ذلك جنونا إذ كيف ذلك وما الهدف من هذا ولكن عبد الوهاب الشال.. رفض الإفصاح قائلاً له فلندع ذلك لحاجة في نفس يعقوب أو يونس أنا موافق المهم نقبض

  • كم ستأخذ
  • عشرة آلاف
  • ولكن ستصيب فقط
  • الإصابة مثل القتل
  • لكنها تختلف يا حاج
  • ولكنها نفس اللحظات الحرجة بل أن القتل أيسر لدي من الإصابة.
  • عشرة آلاف كثيرة جداً.
  • بالعكس أنا خفضت لك المبلغ إلى النصف لأن الإصابة تحتاج إلى احتياطات أكثر من القتل لأن ظني بك أنك رجل طيب
  • دعنى أفكر في الأمر
  • إذا لم تحضر الليلة القادمة في العاشرة مساءا فلتعتبر الأمر كأن لم يكن. عاد يجر أذيال الخيبة حتى الإصابة ارتفع ثمنها أرق طول الليل وسوسن زوجة مسرورة جداً إذ تعتقد أنه يفكر في كيفية البداية والتخطيط للمذكرات بيد أنه كان مشغولاً بقضية أهم قضية عودته إلى الأضواء والتي سوف تتناقلها وسائل الإعلام ويعود أسمه إلى الأضواء بعد خفوت دام أعوام يا لهذا الجو من الإثارة هنا يستطيع أن يمسك بالقلم ويترك العنان للخيال.

صباح اليوم التالي رأي      أمام منزله “عبده قاسم          صاح عليه تنحي به جانبا طلب منه أن يقوم بالمأمورية هذه الليلة أعد له البندقية عبده ظن به كافة الظنون الرجل جن ولا شك وسأل نفس أسئلة “الحاج عمران عبد المقصود والهدف من ذلك بيد أن عبده أشار عليه بعد تفكير أن ينتظر الإصابة آخر الشهر فاليوم الرابع عشر والقمر يتوسط كبد السماء كأننا في الظهر الأحمر أمن على كلامه واتفق معه على كل شيء أنه يجلس في الحديقة وفي الساعة العاشرة يتسلق عبده سور الحديقة الصغيرة من الجهة القبلية ويتربص خلف شجرة الجميز الوحيدة ويطلق العيار الناري بشرط أن يصيب كتفه إصابة طفيفة وجاءت الليلة الموعودة ودون يخبر عبد الوهاب زوجه بما اتفق عليه مع عبده وجلس أمامه طاولة صغيرة عليها عدة أوراق بيضاء أخذ يكتب عدة عناوين لمذكراته ثم يأخذ في محوها طالباً من زوجه أن تتركه ينفرد بنفسه المهم العنوان البراق الذي يجذب القارئ إلى هذا العمل. في العاشرة تماما. حدث أمرين مختلفين الأول أن زوجة عبد الوهاب الشال كانت بجوار زوجها وفي نفس اللحظة أطلق عبده الرصاصة فأصابتها في مقتل لم تتفوه بكلمة صرخ من الأعماق: في دقائق من ذلك الحدث ازدحم البشر من كل صوب بدأت النيابة المعاينة والتحريات والتحقيق وعبد الوهاب الشال في عالم آخر من اللوعة. لم يتهم أحداً وقيدت القضية أخيراً ضد مجهول نشرت الصحف الحادث بالتفصيل. وحين فشلت العدالة في الوصول إلى القاتل الخقيقي اتجهت الاتهامات إلى جماعات التطرف الوحيد الذي كان يعرف الحقيقة هو الزوج ولكن سيموت ومعه السر زاره طيف زوجه في المنام راجية إياه أن ينتهز الفرصة ويشرع في كتابة المذكرات نهض من نومه فزعاً إضاء إباجورة المكتب ودخل إلى المطبخ لكي يعد لنفسه فنجاناً من الشاي بحث طويلاً دون جدوي وأخيراً أطفأ نور المكتب ودثر نفسه في فراشه.

  • كيف أكتب المذكرات وبيتي لا يوجد به سكر ولا شاى.

دليل الخيانة، قصة قصيرة جدا، بقلم: سمير عبد العزيز

منذ ساورته الشكوك بأن زوجته تخونه عرف الليالي القاسية الطويلة التي لا يغمض له فيها جفن وهجر النوم مضجعه وداهمه الأرق وتملكه القلق وبدا عصبيا عالى الصوت ،ضيق الصدر متجهم الوجه وكأنه على وشك قتل أحدهم  وتبدل حاله فلم يعد يهتم بمظهره وهندامه حتى اللحظات التي يغفو فيها يضطهده نومه فينهض مفزوعا .

لم يتوقف عقله عن التفكير لحظة واحدة حتى كاد أن يجن ولم يكف عن تصفح ملامح أبنائه وتضاريس وجوههم ويطابقها بملامحه وتضاريس وجهه ويرصد طريقة كلامهم وإيماءاتهم لعلها تميط اللثام عن الشيء الذي يبحث عنه وهو أنهم أبنائه من صلبه .

مضت الشكوك تقضمه قضما فبدا مهموما شاحبا وأضحت عيناه محتقنتين تحوطهم هالات داكنة وأصبح يقضي جل وقته في البحث عن أدلة خيانتها فأضحى يراقبها وهي تأكل وهى تتحرك وهى تضحك وهى تختار ملابسها واكسسواراتها ويفتش فى هاتفها وحقيبة يدها وخزانة ملابسها ومقتنياتها الشخصية.

لاحظت الزوجة ما طرأ عليه من تغير فى نمط سلوكه وما بدا عليه من شرود وهزال زفرت بغضب قائلة له : هل أقلعت عن تناول دواء الإكتئاب ؟

صدور المجموعة القصصية “الابكم”للأديب الراحل علاء قدري



عن دار ميتا بوك للنشر والتوزيع وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على وفاته تصدر المجموعة القصصية “الأبكم” للكاتب المصري علاء قدري، الذي توفي في عام 2018م عن عُمر يناهز 54 عاما، بعد حياة ثرية حرص خلالها على أن يكون حضوره الإبداعي هامسا، وبلا صخب، ومتناسبا مع حضوره الإنساني الشفيف، وربما لذلك آثر عدم نشر قصصه أثناء حياته، كان هناك دائما حزن ما يكسو نظرته للحياة،

استمر في القراءة صدور المجموعة القصصية “الابكم”للأديب الراحل علاء قدري

مرفأ ذاكرة..شهادة عن الحياة والكتابة والموت ..الروائى حيدر حيدر

١
1-
حين قرأت أول كتاب في زمن الفتوة ويفاعة الشباب ، ما كان في أفق تفكيري أن أتحول يوما إلى كاتب .

بداية ، كان الكتاب صديقي منذ الخامسة عشرة ، وكجميع الفتية المراهقين كان الميل والهوى مع رياح الرومانسية في مطالع الخمسينيات .

كان زمنا للبراءة والحب والأمل والشروق ، ولأنني ولدت ونشأت في بيئة ريفية مطلة على البحر ، فقد نمت في أعماقي تموجات شفافة وطليقة ، صقلتها القراءة الباكرة والشغف العميق بالكتب والأدب تحديدا .

في المدرسة ثم في المعهد التربوي للمعلمين ،خلال دراستي ، كنت طليعيا في الأدب والتعبير ، لكنني كنت في المؤخرة علميا ورياضيا .

كانت الطبيعة ، جبالا وأودية وغابات وبحرا مهادي وينابيع حريتي التي نهلت مع حليب أمي النقي .

النقاء والبراءة وصفاء العالم وهوس الحرية ، امتزجت بالدم وتموجات الروح منذ الطفولة .

هذا العالم الأول ، شبه الطهراني ، سينكسر فيما بعد ، ويغتال عبر صدمة الوعي مع اضطرابات العالم الموضوعي .

لابد أنني كنت مزودا ومحصنا ، منذ الصبا الأول ، بقوة داخلية قادرة على المواجهة حين أتت الأزمنة الصعبة ، فيما بعد ، طبيعتي وتكويني النفسي وتربيتي المنزلية ، ساعفتني في المقاومة الفردية والجماعية والحفاظ على التماسك الصلب ، عبر المحن واستشراء الوحشية ، والخراب الخارجي ، وهبوب العواصف .

وكما كنت بريئا ونقيا في أعماقي ، كنت شرسا وصداميا في المدرسة والشارع والبيت ، مع الآخرين ، حين تهب رياح الأذى والشر والعدوان وتستهدفني .

الحرية علمتني الاعتزاز بالنفس ، والطبيعة والصيد ، والبحر زودني بسلاح القوة الدفاعية .

الصدامات والشجارات والاشتباكات الأولى مع فتية القرية ، ثم مع فتيان المدينة ، تنامت جنبا إلى جنب مع الصداقات الحميمة لأترابي الأول ، عصبة الحرية والذود عن الكرامة للفرد أو المجموع المستهدف بالأذى أو العدوان .

هذا التكوين البدئي ، الطفولي ، الرومانسي ، الغاضب ، سيرسو في أعماق الذاكرة ، مشكلا النواة الأولى للشخصية ، كما سينعكس فيما بعد عبر مرايا موشورية ، مصقولة ، أو مغبرة ، أو منكسرة ، في فضاء الأدب والانخراط السياسي .


في العام الثاني من وجودي في المعهد التربوي للمعلمين ، نشرت أول قصة بعنوان ” نوران ” في مجلة محلية تصدر في مدينة حلب ، مقر المعهد .

قصة حب رومانسية أرسلتها بعد نشرها إلى الفتاة التي أحب ، كنت مغتبطا ومزهوا بهذه البداية بين زملائي الطلاب ، وأمام الفتاة التي تلفت القصة وقرأتها .

لكن الفرح والزهو ماداما طويلا ، وصلت القصة إلى أهل الفتاة والوشاة من الأقارب والعواذل ، فتحولت إلى فضيحة وتشهير كما أولوها ، فكانت بداية القطعية وموت الحب الأول .

هكذا بدأت الصدمة الأولى مع المجتمع من خلال الأدب .

في مطالع الخمسينيات ، كان المناخ السياسي مضطرماً باتجاهات وأفكار وتنظيمات وانقلابات ، اضطربا ما بعد الاستقلال ، وكان السؤال- المصير : اضطراب ما بعد الاستقلال ن ، وكان السؤال- المصير : البلاد إلى أين تسير ؟

كان الوطن يتأرجح تحت وطأة الانقلابات العسكرية المتوالية ، بدت الحياة السياسة آنذاك غارقة في الفوضى والاضطراب بعد الهزيمة العسكرية في فلسطين ، وبداية تأسيس المشروع الصهيوني ونشوء الكيان الإسرائيلي .

لم أتردد طويلا في الانخراط السياسي ، لكنني ترددت في الاختيار بين اتجاهين : العروبي أو الماركسي . حوارات وجدالات حارة تدور حولي وفى داخلي .

كنت قريبا جدا من الطلاب والمدرسين البعثيين في المعهد ، لما كانت صلتي بالشيوعيين جيدة وأثيرة ، رأيت نفسي في مركز الجذب بين التيارين ، موزعا بين موجتين هما الأقوى في البحر السياسي المضطرب والعاصف آنذاك .

فلسطين وحلم الوحدة العربية والثأر من هزيمة عام 48 ، لابد أنها حسمت اختيار باتجاه موجة البعث .

كان الشيوعيون يرون في المسألة الاجتماعية والاشتراكية ، والعلاقة الخارجية مع الاتحاد السوفييتي ، المعترف بالكيان الإسرائيلي ، الهدف المركزي والأساسي ، في الوقت الذي كانت فيها مسألة الوحدة العربية وفلسطين ، مسألة ثانوية أو تالية في برنامجهم السياسي .

لكن البعث والشيوعيين كان في خندق واحد عبر مواجهة الديكتاتورية العسكرية ( حكم الشيشكلي ) ، دفاعا عن الديمقراطية وعودة الحياة السياسية والحكم المدني .

كنت مسئولا عن التنظيم الطلابي البعثي في المعهد ، معا ، نحن والتنظيم الشيوعي ، مع الطلاب الأنصار والموالين والمستقلين ، كنا ننسق العمل السياسي ضد الديكتاتورية العسكرية .

هكذا ، كما في فضا كابوس عنيف وملحمي ، قبل أن أبلغ العشرين من عمري ، رأيت نفسي منزجا ومصهورا في خضم التجربة السياسية الهائجة والعاصفة . التجربة التي ستؤثر وتنعكس مستقبلا على الأدب عبر مد وجزر ، مولدة في الأعماق صراعا وجوديا سيحسم في قادم الأزمنة لصالح الأدب .

هي ذي الأزمنة الصعبة تهب برياحها الأولى ، الأسرة ، وأنا كبيرها بعد صدمة موت الأب ، كيف تعليها براتب لا يتجاوز الـ ” 300 ” ليرة سورية ؟

الكتاب الذي ستشتريه بوفر سرى مقصدا ، وأنت تعرف أنه يوازي الرغيف!

وما كان الكتاب المطلوب متوافرا ، كان على اللجوء إلى الاستعارة من بعض الأصدقاء ، أو الاستئجار من مكتبة المدينة .

خلال أربع سنوات ، ما قبل الخدمة العسكرية الإلزامية ، كثفت قراءاتي بتنوع فوضوي غريب حسب ما هو متوافر : أدب- سياسة- فلسفة- علم نفس- دراسات فكرية ونقدية .

الكتاب الأجنبي المترجم كان يستهويني ، لكن حركة الترجمة كانت بطيئة ومحدودة في منتصف الخمسينيات .

مصدر الثقافة الأساسي كان القاهرة وبيروت سواء في الكتب أو المجلات.

بيروت كانت مركز الترجمة والنشر ، والقاهرة مركز الكتاب العربي أساسا مع الترجمة ، من هذين المنبعين ، كتبا ومجلات ، نهلت القراءات الأولى في الأدب والفلسفة وعلم النفس والدراسات النقدية والفكرية .

  • 2-
    الانتقال إلى دمشق في أوائل الستينيات تراءى لي كحلم ، ومع أنني كنت مستدعي للخدمة العسكرية الاحتياطية بعد الثامن من مارس ، فإن النشوة الداخلية ملأتني غبطة وأملا بلقاء المثقفين في العاصمة . فالوجود في مركز الثقافة والأدب والحوارات المعرفية سيضيء ويصلب تأسيسي الأول غير الممنهج ، سواء في القراءة المشتتة ، أو الافتقار إلى الحوار مع الآخر ، بالإضافة إلى توافر الكتاب ، ستكون للناس حدائق من العشب والورد ، أما حدائقي المفضلة فستكون المكتبات وأعشابي ووردي هي الكتب ، ما كنت أشعر بالملل أبدا وأنا أدور في الشوارع لأكتشف المكتبات كبراها وصغراها ، وحين أدخل وأرى ثم أقلب الكتب كانت تنتابني رعشة عاشق يعانق حبيبته بعد غياب طويل .

عملي كضابط في الجيش مهمة مركزية تحتاج إلى ثقافة عسكرية ، بناء الأسرة بعد الزواج المبكر ما كان بالمهمة السهلة ، العلاقات والحوارات وتأسيس صداقات مع المثقفين والكتاب كانت في مركز اهتماماتي ، تنظيم وتنسيق فوضى ثقافتي الذاتية ، وتأسيس مكتبة خاصة في البيت ، كانت هاجسا وحلما لا بد من تحقيقهما .

تحت غمرة هذه الأعباء ، كنت أوزع الوقت والحركة بروح بروميثيوسية ودينامية غريبة .

لابد أن الطبيعة وحياة الطفولة الأولى قد منحتني طاقة وحيوية ، ستكون مثار دهشة من الآخرين على مدى الزمن الذي عشت .

كنت ممتلئا ومأخوذاً بفكرة الأمل ، وضرورة تغيير العالم نحو الأفضل والأجمل والأكثر عدالة على المستوى الاجتماعي ، بتطرف ثوري اتسمت حواراتي ، مصطدما بغضب مع المثقفين حول الحلول الوسطى ، كانوا يسمونني الرومانسي الثوري الحالم .

ولأن الوعي التاريخي ، كما كنت أعتقد ، هو مفتاح التغيير ، توهمت تنامى وتيرة متسارعة لهذا الوعي ، ستختزل حركة الواقع المتخلف لتدفعه نحو المستقبل العادل والحضاري ، سأدرك متأخرا ربما ، أن وعيي الذاتي- الفردي- مقترنا بوعي سياسي جماعي محدود ، كان يتحرك بسرعة الأرنب الواثب في الريح ، في حين كان الوعي الشعبي- الجماهيري يتحرك بسرعة السلحفاة أو الحلزون ، فوق أرض الواقع .


كنت مواظبا على قراءة مجلة ” الآداب ” اللبنانية حتى قبل قدومي إلى دمشق ، ولعل للآداب دورا أساسيا في اتجاه بوصلتي نحو الأدب ، ويوم نشرت لي أول قصة خامرني حبور لا يحد ، لكن زوجتي أحبطتني إذ قرأتها قائلة بين المزاح والجد : ومع ذلك لن تكون همنجواي !

القصة الثانية بعنوان ” رجل بلا جدران ” نشرت في الآداب أيضاً بعد أشهر من الأولى ، في باب نقد قصص العدد ، انهال الناقد الراحل ” وحيد النقاش ” على القصة بتشريح نقدي مر ، واسما هذا النوع من القصص بأنه تقليد ومحاكاة ساذجة للأدب الوجودي في الغرب . على مدى ثلاث سنوات ، توقفت عن النشر ، انكببت على القراءة ، والحوارات الشفوية ، وحضور بعض الندوات ، وتسجيل انطباعات وخواطر خاصة ، وفى داخلي هاجس أنني لم أنضج بعد ، متجاوزا صدمة النقد نحو مزيد من التأمل والنقد الذاتي .

في الوقت الذي بدأت أنشر فيه بعض المقالات والزوايا اليومية عبر الدوريات السورية ، بدأت أدرك أن انحيازي نحو القصة يكاد يكون الطاغي على ما عداه ، كانت القصة في سوريا والبلاد العربية تنحو باتجاهين أو تيارين : الواقعية الاجتماعية ، والرمزية .

وكان أبرز ممثلي هذين التيارين في سوريا سعيد حوارنية وزكريا تامر ، سعيد واليساريون من أنصار الواقعية الاجتماعية والتيار الاشتراكي ، وفى حين يمثل زكريا المدرسة الرمزية .

في مصر ، كانت قصص يوسف إدريس تجتاح الفضاء الأدبي ببريق خلف ، إلى جانب يوسف إدريس كان هناك إدوار الخراط وسليمان فياض وأبوالمعاطي أبوالنجا وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وآخرون ، يكتبون بأسلوب عذب وشفاف ، عبر مزيج تعبيري واقعي ورمزي في آن ، الأساس الروائي في تلك الحقبة ، شيد على صخرة صلبة بيد نجيب محفوظ متوجا بالثلاثية ، ثم جاءت مفاجأة الكتاب الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية ، ترجمت رواية ” نجمة “لكاتب ياسين ، ثم ثلاثية ” محمد ديب ” و ” التلميذ والدرس ” و ” رصيف الزهور لا يجيب ” لمالك–، كما ترجمت أعمال جزائرية أخرى لمولود فرعون وآسيا جبار . ومن الشرق والغرب ، عبر الترجمة ، وفدت الآداب الروسية والسوفييتية ، ثم الفرنسية والإنجليزية والأمريكية والألمانية ، ستليها أعمال روائية يابانية وإفريقية وأمريكية لاتينية متفرقة .

سردت هذا المشهد الثقافي الأدبي لأشير إلى ينابيع قراءاتي في النصف الأول من الستينيات ، موليا في الآن نفسه ، ومثابرا على القراءات غير الأدبية في علم النفس والفلسفة والتراث والدراسات الفكرية والنقدية في الأدب والسياسة والتاريخ .

إن تكوين منظومة فكرية عامة عن الحياة والإنسان والعالم ، واحتياز مخزون ثقافي معرفي بفروع متعددة ، يشكل ، في اعتقادي ، بنية مركزية تضاف وتدعم الموهبة والتجربة الحياتية والتأمل الاستبطاني للكاتب .

ستتضح فيما بعد أهمية هذه الفكرة ، ومدى انعكاسها داخل البنية الروائية . كذلك الأهمية الكبرى للفنون الإبداعية الأخرى : كالشعر والمسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى ، هذه الفنون التي تدخل في نسيج العمل الروائي الجديد والمغاير في عصيرنا الراهن .


في العام 1968 تقدمت إلى وزارة الثقافة السورية بمجموعتي القصصية الأولى ” حكايا النورس المهاجر ” نشرت المجموعة بعد أن أثنى عليها الأستاذ أنطون مقدسي مسئول مديرية التأليف والترجمة ، ثناء أدهشني ، كتقديم للمجموعة كتب : ” هذه المجموعة قفزة جريئة إلى الأمام تحققها القصة العربية ، فهي تكشف عن البعد التاريخي للحادثة بعد أن كان غيرها يكشف عن بعدها الاجتماعي وحده .

الإنسان هنا يعيش على أكثر من مستوى ، وهو أحيانا يستعيد ، وربما يعيد تاريخه وأبطال تاريخه ، والزمان يصبح هنا بعدا رابعا من أبعاد الوجود، والرمز يحل أحيانا محل الحادثة ،الحادثة ذاتها تتفجر لتفصح عن المعنى أو لتدل عليه سرا قائما في الأعماق ، إن قصص حيدر حيدر تتحرك في مختلف أبعاد الوجود الإنساني : الشعور واللا شعور ، الماضي والحاضر ، وتتسم الكلمة عنده بسمتين تبدوان للوهلة الولي متعارضتين : فهي حلقة من سلسلة متماسكة رياضيا ن وهي في الوقت ذاته نور يلقيه المؤلف على ما وراء الكلام ، ما هي قبله وبعده .

هذا هو عالم حيدر حيدر ، غريب ، يثير التعجب عند من بقيت لديه قدرة على التعجب .

أو ليس وجودنا كله هكذا ! ” .

أثار الكتاب صدى إيجابيا لدى القراء والنقاد ، كما خامرني إحساس داخلي بالثقة بعيدا عن الزهو والخيلاء .

منذ الآن أنا كاتب وأديب إذن !

ياللورطة ! لقد بدأت مسافة الألف ميل بخطوة

أقول الورطة وأنا أعني عبء المسئولية بأساء أدبية كبيرة وعريقة وراسخة في مضمار القصة والرواية .

كان السؤال المؤرق ، وربما مازال حتى الآن : كيف تتطور وتتجاوز وتؤسس أسلوبك الخاص المتمايز عن أساليب الآخرين ؟

كتب عن المجموعة في الصحف والمجلات نقد يسمها بالقصص التجريبية في أسلوبها . آخرون كتبوا عن الأسلوب التعبيري والحس الملحمي ، كأسلوب جديد مفارق لما أسموه بالمدارس الواقعية والرمزية والاشتراكية .

كنت في مرحلة التجريب ، لا ريب في الأمر ، وما كنت لأفقه الكثير عن المدارس الأدبية ، بلبلني النقد والحوار وأربكني . وبطبيعتي الخجولة كنت أجيب : هذه طريقتي ، وهذا أسلوبي في الكتابة ، الأساليب مختلفة وأنا أنفر من التصنيفات المدرسية .

منذ صور المجموعة الأولى وحتى اليوم ستظل تلاحقني أدبيا هذه التهمة الجميلة ( الشعرية ) ، . نتيجة الالتباس ، والثنائية التي تفصل ثقافيا وخطلاً بين لغة الشعر ولغة النثر السائدتين والراسختين في تاريخ الأدب والنقد العربي ، حيث لم يوليا انتباها لما عرف في العالم بعلم جمال الأسلوب ، وكسر الحدود الفاصلة بين لغة الشعر والنثر في الكتابة الأدبية المعاصرة والحديثة .

في العام نفسه 1968 بدأ التحضير لتكوين اتحاد الكتاب العرب ، ونتيجة لقربى من القيادة السياسية للحزب التي شجعت الفكرة ، وقع على عبئ ومسئولية تحضيرية ما كانا يسيرين ، وتحديدا في المراجعات الوزارية المختصة ، وتوقيع الأوراق ، وتجهيز محاضر الجلسات ، وتحديد مواعيد الاجتماعات ، وحل بعض الأمور العالقة مع القيادة السياسية .

على مستوى الكتاب والهيئة التحضيرية ، كان الجميع يعملون بحماسة اندفاع ، رغم الصعوبات الناشئة جزاء عدم الخبرة ، وتشعب الآراء والأفكار حول الهيكلية العامة ، واختيار الأعضاء مستقبلا للقبول في جسم الاتحاد ليكون اتحادا فعليا ونوعيا وليس تجميعيا ثقافيا كما النقابات الأخرى .

أخيرا ، تأسس الاتحاد وانتخب المكتب التنفيذي وكنت فيه . في المكتب وزعت المهام واللجان ، ووقع على اختيار مسئولية الإشراف على النشر .

خلال عام تقريبا من بداية عمل المكتب التنفيذي ، صدرت مجموعات شعرية لمحمد الماغوط وممدوح عدوان وعلى كنعان ومحمد عمران ، كما صدرت مجموعتان قصصيتان لزكريا تامر ولى ، كبداية ، ثم تناولت الإصدارات الأدبية بعدها لأدباء آخرين .

عبر انهماكي وتفرغي في أحاد الكتاب ، مضافا إليهما العمل السياسي- الحزبي ، عكفت على كتابة رواية طويلة ستصدر بعد خمس سنوات في بيروت هي ” الزمن الموحش ” ، الرواية التي ترصد وتحلل التجربة الذاتية والموضوعية لما بعد هزيمة حزيران المرة في سنة 67 ، وما قبلها .

فيتلك الفترة كنت أعاني اضطرابا قاسيا وصعبا في مواجهة حياتي الخاصة ، وعلاقتي السياسية المتوترة مع التنظيم ، نوعا من انعدام التلاؤم والصدام مع قناعاتي القديمة ، بدأت تبدو لي هشة وجاهزة للكسر والتحطيم في أي لحظة .

الآن يبدو أنني أحيا في المنطقة الحرجة ، على قوس منعطف جديد ، وحدود انفجار قادم .

  • وداعا لحياتي القديمة ، وداعا للوطن !

سجلت هذه العبارة في دفتر اليوميات ، قبل أيام من رحيلي إلى الجزائر للعمل في التدريس .

كان ذلك في العام 1969 بعد أن غادرت التنظيم واتحاد الكتاب إلى غير عودة .

ذلك كان أخطر قرار اتخذته آنذاك ، وأنا مفعم بالمرارة ومجروح ، كما كان في الآن ذاته بداية مرحلة ، وتجربة غريبة ، مدهشة مجنونة ، وعاصفة ، لن أندم عليها أبدا .

  • 3-

كما في رؤيا سريالية ، وجدت نفسي ذات خريف على أرض مطار وهران في الجزائر .

كنت في تلك اللحظة شبيه جندي من جنود طارق بن زياد ، بعد أن أحرقت سفينته مع السفن الأخرى .

الجزائر الآن خارجة من ليل استعمارها الطويل ، مثخنة بالجراح ، ومفعمة بأمل المستقبل والتغيير ، وتضميد الجراح ، الخطط والبرامج المستقبلية تكتسي بالوشاح الثوري : الثورة الزراعية ، الثور الصناعية ، الثورة الثقافية ومعركة التعريب .

حين وصلت إلى مدينة ” عنابة ” في أقصى الشرق الجزائري ، حيث جرى تعييني وإيفادي من العاصمة ، كان معى اسم مسئول البعثة السورية وعنوانه ، لا غير ، بعد ثلاثة أيام من التداول ومراجعة ” الأكاديمية ” التربوية ” مديرية التربية ” صدر قرار بتعييني مدرسا في مدرسة ” أبناء الشهداء ” بضواحي المدينة .

كنت سعيدا بالقرار ، وفى أعماقي خامرني إحساس بجلال المسئولية وقداسة العمل ” الرسولي ” بين الطلاب الذين استشهد آباؤهم البواسل في حرب التحرير ، كانت الدلالة الرمزية للأمر تتنامى مع مشاعري الداخلية ، وإجلالي لثورة المليون شهيد .

بعد زمن ، بعيدا عن مناخ التدريس وصخب الطلاب ، سأسجل في اليوميات : ” خفقة القلب بنشوة السفر تشبه خفقته بوردة الحب وهي تتفتح في أصقاع النفس ، ثمة روائح تنتشر وتعبق في صحاري الغربة ، اهتزازات لا مرئية تمس شغاف الروح ، حالة انصهارية بالحياة والموت والأمل الأقل .

حالة جليلة كجلات الموت تأتى بغتة ، فترميك بهدوء على سطح ما من أرض غريبة ، هل تركت شيئا ما في مكان بعيد ؟ أأنت حزين لأنك فارقت ؟ هل وراءك بيت في أقاصي العالم ولا تستطيع العودة إليه ؟

تقدم عاريا إلا من النسيان ، ففي النهاية ، يبقى الموت الحقيقة الوحيدة القاسية ، والغربة هي الخطوة الولي باتجاه تلك الحقيقة ، لن تخسر شيئا عبر هذا الإسراء التراجيدي لأنك لا تملك شيئا غير هذا الجسد الجامح والروح المتوهجة ، هذه المتآخية أبدا مع الشقاء والخطر “.

في المدرسة الداخلية والمقهى هما المركز والملتقى مع الآخرين ، وعلى الأطراف : البحر .

سنوات الجزائر كانت سنوات المكابدة والغربة الداخلية . الجزائري قاس وطفل في آن ، من الصعب تشييد علاقة معه لأنه حذر وشكاك بالآخر غير الجزائري ، سنوات الحرب القاسية ، حولت قلبه إلى صخر كتيم ، لكن روحه العميقة احتفظت ببراءتها الطفولية ، العنف الأفريقي عبر الإنسان الجزائري هو عنف الدفاع عن الذات المهددة من الخارج .

تلك التجربة العاصفة ، العذبة كفجر الحب ، والمرة كطعم الحنظل ، ملأتني بعوالم ساحرة ، وشيطانية ، مفعمة بالغرابة والدهشة ، شبيه اكتشاف قارة مجهولة .

  • 4-

أهو القدر الغيبي المرسوم لك على الألواح اللامرئية ، أم إرادتك وعقلك وتخطيط للحياة ، هو ما يقود خطاك عبر العالم ؟

آن أفكر بحياتي وهذه الهجرات التي حملتني أمواجها ، ثم صداماتي وانعدام تلاؤمي مع المفاهيم السائدة ، أدرك إلى أي مدى كنت شقيا ، وعابرا كما شهاب في فضاء فصل عن كوكبه ، وضاع ، ما كدت أغادر الجزائر وأعود إلى الوطن في العام 1974 حتى رأيت نفسي مستقيلا من الوظيفة التعليمية ، وبلا علم ، خلال شهرين غادرت إلى بيروت ، وعن طريق معرفتي بأحد الأصدقاء بدأت عملا في إحدى دور النشر كمصصح لغوي .

طلاقي من الجيش ثم التنظيم فالوظيفة ، أعطاني فضاء من الحرية والمتعة الذاتية ، رغم مرارة وشقاء التشرد واستحالة الاستقرار والهدوء .

على الأغلب كنت أستجيب لطبيعتي القلقة ، وللرغبة الكامنة في السفر والبحث عن المجهول والغامض الذي لا أعرفه .

لبنان رئة الحرية ، وعلى مدى تاريخه منذ الاستقلال حتى اليوم كان مأوى وملاذا للمثقفين والسياسيين والمنفيين العرب ، وبيروت بجدارة عاصمة الثقافة وحرية النشر حيث لا رقابة على الكتاب .

خلال فترة وجيزة ، تعرفت على مجموعة من الكتاب والصحفيين اللبنانيين والعرب .

خارج أوقات الدوام ، وفى أيام العطل ، كنت أدور على المكتبات بلهفة وشغف ، كان على إعادة تأسيس مكتبتي من جديد ، بعد أن بعثرت معظم الكتب ، واستعيرت بلا عودة بين دمشق والجزائر .

رواية ” الزمن الموحش ” صدرت في ذلك العام عن دار نشر لبنانية ” العودة ” بستمائة نسخة فقط ، رغم توسط الصديق الشاعر ” أدونيس ” وقوة تأثيره ، والتعريف بي لدى صاحب الدار الناشرة .

حين تطوف في الذاكرة طيوف المدن العربية التي عرفت ، تبقى بيروت الأجمل والأحب إلى نفسي . الحرية المطلقة للفرد في التعبير والحركة ، والثقافة المفتوحة ، والإيقاع الحضاري النسبي والمستورد ، والمجتمع المدني المتوازن طائفيا ( الطائفة المقيتة في جوهر الانتماء هي التي أفرزت هذا النوع من الحرية ) والديمقراطية السياسية رغم طوائفيتها الفاقعة ، تبقى الأكثر قبولا وإقناعا من ديمقراطية الأنظمة العربية السائدة ذات البعد الواحد .

نذر الحرب الأهلية والصدام مع المقاومة الفلسطينية ، كانت تلوح في الأفق ، توتر وغليان واستعدادات عسكرية ميدانية ، وانقسامات في المجتمع اللبناني ، الجبهة اللبنانية بقيادة الكتائب واليمين المسيحي ضد المقاومة وجبهة الأحزاب والقوى الوطنية إلى جانب الفلسطينيين .

في زمن الحرب ، صدرت مجموعة ” التموجات ” و ” الوعول ” وأعيد نشر رواية ” الزمن الموحش ” ، و ” الفهد ” بعد فصلها عن مجموعة ” حكايا النودس المهاجر ” ، كما أعيد طباعة ونشر ” حكايا النورس المهاجر ” وما لومض ” ثانية .

سافرت إلى روما بتكليف من الإعلام الفلسطيني لمقابلة الطيران هيلاريون كبوشي في منفاه هناك ، وكتبت عنه كتابا بمنزلة سيرة ذاتية ” كبوشي من الدين إلى الثورة ” . وفى تلك الفترة العصيبة كنت عاكفا على إنجاز روايتي الطويلة ” وليمة لأعشاب البحر ” التي استمر العمل فيها عشر سنوات .


” أبداً هذا الرحيل ” . كان أول عنوان للمحطة التالية : قبرص ، كتبته في مجلة ” الموقف العربي ” التي بدأت تصدر في نيقوسيا . وأنا أغادر بيروت ، هذه المدينة التي صارت خرابا ، بعد سنوات النار من الاحتدام والفزع والموت ، تساءلت : لماذا ؟

وفى سنوات النار وصدمة الحرب لم أفكر بالرحيل عن بيروت نحو المدن الآمنة والرخية ، كنت أردد مع همنجواي : عش دائما في الخطر واقذف بنفسك إلى أرض الحرائق .

ستمر أزمنة طويلة قبل اكتناه جميع الأسباب والإحاطة بها للجواب على السؤال : متى يخرج العرب من ظلماتهم وموتهم ؟ ومع هذا فكل منا هو نوع من بروميثيوس صغير حين يطرح على نفسه ذلك السؤال الصعب .

في المجلة ، أشرفت على القسم الثقافي ، بالتعاون مع الصديق الشاعر العراقة سعدي يوسف ، رئيس التحرير .

رحلة قبرص كانت قصيرة ما تجاوزت العام إلا قليلا في ذلك الوقت ، لكنني سأعود ثانية إليها بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت . قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بأسبوع عدت إلى بيروت . ومع بداية الحصار ، التحقت ثانية بالمقاومة في مكتب الإعلام ووكالة ” وفا ” الفلسطينية .

على مدى الحصار ، تحت مطر القذائف برأ وبحرا وجوا ، أصدر المثقفون والكتاب الفلسطينيون والعرب جريدة ” المعركة ” تيمناً باسم الجريدة التي أصدرها ” ألبير كامو ” والمثقفون الفرنسيون في باريس ، إبان الحصاري النازي والغزو الألماني .

صدر العدد الأول في 22 يونيو 1982 بعد عشرين يوما من الاجتياح ، تتصدره لازمة لشاعر المقاومة الفرنسية ” لويس آراغون ” : ” اللعنة على العدو المحتل . ليدو الرصاص دائما تحت نوافذه ، وليمزق قلبه الرعب ” .

في هذا العدد كتبت زاوية بعنوان ” أطفال المعركة ” .

تحت القصف ، كنا نوزع ” المعركة ” عل المقاتلين في جبهات القتال ، وفى الوقت الذي كنا نوالي فيه الكتابة للإذاعة التي لم تتوقف رغم محاولات قصفها مرارا ، وقصف مقر الجريدة في رأس بيروت .

ذات فجر ، وأنا نائم في البيت مع صديقي ، أيقظني دوى كأن البيت اقتلع من أساسه وهوى ، شظية مدفع من طوربيدات البحر اخترقت الجدار الغربي لردهة المدخل ، حطمت الزجاج وحفرت البلاط والجدران المواجهة ، ومزقت الكتب واللوحات ، هدوء غريب هبط على وصديقي بعد رعشة الرعب والمفاجأة .

  • لم نمت إذن !

كنسنا الشظايا ، وأعددنا القهوة وشربناها على الشرفة المواجهة للبحر وزوارق العدو ، بدت حركاتنا نوعا من التحدي الساخر ، والعبث واللا مبالاة في آن .

في اليوم ذاته ، كتبت مقالا ” للمعركة ” بعنوان شظايا البحر ” .


الآن ، وبعد ستة عشر عاما من ذلك الزمن التراجيدي ، وخلال سبع سنوات من الحرب الأهلية والاجتياح والحصار الإسرائيلي ، أسأل نفسي : كيف نجوت من الموت ؟ أهي المصادفة أم القدر ؟ أم كلاهما ؟

مازلت حيا ، وأنا فخور ومعتز بمجد تلك التجربة العاصفة ، ففي الحرب ومناخ الموت تمتحن روح وقوة الإنسان ، قد نموت وقد ننجو ، لكننا لن نركع ولن نذل.

حيدرحيدر
مجلة العربي نوفمبر 1999

استمر في القراءة مرفأ ذاكرة..شهادة عن الحياة والكتابة والموت ..الروائى حيدر حيدر

الايروتيك العربي 1. بقلم: السعيد عبد الغني

*

لا يمكن الحديث عن الايروتيك العربي بدون الدخول لفلسفة الجسد العربي وأبعاده،  والنظرة الى المرأة، و حرية المرأة والجسد،  وتاريخ الجسد في الاسلام، المسيحية.. إلخ،  الكبت،  الدين عموما.

فذاك مرتبط بالنظرة الى كل أنواع الايروتيك على أنها بورنوغرافيا.

 والارتباط ذلك أو التقييم نابع من الثقافة، لذلك وجب الحديث في القسم الأول عن:

١.الايروتيك أم بورنوغرافيا؟

٢.استخدام الحرية بشكل مزيف واستخدام الدين للكبت

٣.الذكورية في الرجل أو المرأة

فالثقافة البصرية العربية لا تسمح مثلا بتماثيل عارية  في الشوارع،  لذلك يدخل في حيز البورنوغرافيا أي الشكل المحتقر للجسد والاثارة كل شيء. 

والاحتقار الحالي لم يكن موجودا في صدر الاسلام

(سيتم مناقشته في المقال القادم)

فالايروتيك أو الرؤية الجمالية غير موجودة من الاساس إلا في أشخاص قلائل.

إيروتيك أم بورنوغرافيا

هذ هو السؤال المتكرر دوما عند الحديث عن الفن/ الأدب الايروتيكي. إنه بورنوغرافيا وليس فن،

وأن “الايروتيك” كلمة فنية لتدليس البورنوغرافيا.

 الايروتيك هي ” تقديمات أو تمثيلات على الاقل فى النهاية تؤخذ على أنها نشاط جنسي ”.[1]

الأصل اللغوي لبورنوغرافيا

يتم الاعتراض دوما على الفن الايروتيكي أنه يمثل صور عارية مذمومة وفاضحة للجسد الانساني سواء الرجل أو المرأة فى أوضاع شبقية.

” قال القدماء بأن بارازيوس اخترع البورنوغرافيا حوالى عام 410 فى أثينا ق م والبورنوغرافيا تعنى حرفيا ” رسم المومسات ” [2]

ويتم الخلط بين الفن العاري والبورنوغرافيا كثيرا بين الناس حيث يطلقوا على أى لوحة أو تمثال عارى بورنوغرافي.

الفرق بين البورنوغرافيا والإيروتيك

 والفرق هنا فى الفعل الجمالي والاستثارة، إن تمت الاستثارة الجمالية نفسها أكثر من الاستثارة الجنسية فهذا الفن ايروتيكي أى على حسب الدلالة فى الرائي أما إن كان إستثارة جنسية فقط فهذا بورنوغرافي .

فالبورنوغرافيا ليس لها وظيفة سوى إثارة الغرائز الحسية بينما الايروتيك له وظائف جمالية.

والذين يقفون ضد الفن العاري يقفون بعلل تهميش الجسد وقمعه وقمع جمالياته.

 حيث يريدونه ان يظل مغلفا محجوبا رغم أنه قيمة أساسية في حياة الانسان مثله مثل القيم الأخرى التي إن حُرمت يولد ذلك تشوهات كثيرة .

ثقافة الرائي

والدلالة هنا للتصنيف اعتبارية بثقافة الرائي فكبته جنسيا سيجد أي جسد عاري ولو حتى دمية مجالا لإثارته الجنسية.

 النسبية هنا ليست معرفية ناضجة بل النسبية مجروحة بالكثير من الكبت ويعتمد على ثقافة ونوازع الشخص.

قصة بودلير و”العاهرة”

 حتى أن بودلير مرة كان يتحدث عن عاهرة عادية ذهبت معه إلى متحف فوجدت لوحات ومنحوتات عارية كثيرا ”

” أغبياء البرجوازية الذين يتشدقُون دائماً بكلماتِ من قبيل (( لا أخلاقى ))، (( لا أخلاقية ))، (( الأخلاق فى الفنّ )) وغيرها من الحماقات، يُذكِّروننِى ب (( لويز فيلديو ))، وهي عاهرة بخمسة فرنكات، رافقتنى ذات يوم في زيارة إلى اللوفر، وكانت تلك أوّل مرة تزور فيها هذا المتحف، فاحمَرَّ وجهُها وراحت تغطيه بكفّها وتجذبنى من كُم السترة، متسائلةً أمام اللوحات الخالدة: كيف أمكن عرض كل هذه العَوْرَات على الناس؟ ! ” [3]

الدعاوي للكبت والدعاوي للحرية للاستخدام

يدعو المزيف سواء عربي أو غيره إلى حرية الجسد عندما يشتهي ويزدريها عندما يشتهي آخر أخته.

المزيف أي قلة الصدق في التعامل مع المفاهيم واستخدامها بدون أسس معيارية، بل تبريرا واستخداما لكبته أو شهوته.

فبعد مواجهة الكثير من المجتمع كان التابو الأكبر نسبيا هو الجسد، بتعبيراته كلها الرقص الجنس الجندر.. الخ.

السُباب والجسد

 التابو هذا به نسبة احتقار ولذلك يستخدم في السباب، وأصنفه على أنه مقدس ومدنس مزدوج، مقدس عندما يراد ومدنس عندما يفعله الآخر خارج تقييمات الشخص.

أي أحد يدافع عن حقوق المرأة في أي شأن، الميراث، الحجاب، الحرية الفكرية.. إلخ، يتم نعته بلفظ “الخول”.

يطلق على كل مدافع عن حقوق المرأة في المجتمع العربي بين المقيدين لفظ “خول”.

 وهو لفظ تصنيفي ومعناه الشعبي التاريخي هو المثلية المبطنة أو عدم الرجولة (بالمعنى الشعبي)أو قلة الذكورية.

“ويُرجع البعض الأصل الأحدث لسبة “الخول” الى القرن التاسع عشر، حين كان الرقص محظورًا على النساء، فكانت “الخولات” هي فئة من الرجال يرقصون الرقص الشرقي النسائي، وكان “الخولات” يتشبهون بالنساء في استخدام الصاجات وارتداء بدلة الرقص والتزين النسائي.”

سند التصنيف”الخول”

فسند التصنيف كما رأينا اقتران الفن (الرقص) بالرجل وممارسته إياه وذلك من نظرة الذكورية المطلقة التي لا يمكن أن تستخدم جسدها في أفعال لاسلطوية.

والمعنى “الجنس المثلي” يسود في النعت بين الرجال حتى في المزاح للتأثير على قوة الحجة بالخلل والاضطراب والمفارقة الدنيئة، فلا توجد حركة دلالية في المفاهيم بل توجد ثنائية لكل شيء.

وبهذه الثنائية الرجل هو القوي الفاعل والمرأة هي المفعول به المتدنية، والنعت بالأنثوية عار للرجل وسُبة.

وسوسيولوجبا السباب في إلحاق قيم دنيئة بالنسبة للمجتمع بالمسبوب.

وأغلب هذه السبابات تكون بالجنس لعنصرية الأرض الأزلية في الجسد من حيث جنسه، من حيث لونه.

تاريخ هذه الثنائية للسهولة والجهل المعرفي فلا توجد مساءلات شخصية وتجارب ذهنية.

السُلطات والتصانيف

 فالتصنيف من أدوات المجتمع الجاهل المقموع لقهر المختلف والمتفكر والمتأمل.

وسيكولوجية تلك المجتمعات شديدة التعقيد كون السلطات كلها فاعلة ومستفيضة في التأثير ولا توجد مقاومات ولا احتجاجات.

التشكل الجمالي الوحيد لهذا المقهور والمقموع هو قهر المرأة حتى وهو يستمتع بجمالها في الجنس والرؤية، كأن الأمر لعبة جمالية عميقة سادية.

الذكورية المطلقة في المجتمع العربي

الذكورية التي تظن أنها فوق الأنثوية تاريخيا من الصعب التحرر منها بالنسبة للرجل لأنه مُعطَى أوهام حقوقية وراثية من المجتمع.

أصبحت بمثابة الحقوق المطلقة مثلها مثلها كلام الله في دينه،  تسهل له التعامل مع المرأة كسلعة فلا يمكن أن يتحرر من ذلك بسهولة.

الجسد والتسليع

 والذي يعاضد ذلك هو التدين أيضا والثقافة الرأسمالية التي جعلت الجسد سلعة والجسد الأنثوي بالخصوص” فالتبضيع التجاري للجسد هو أحد أوجه النظومة المادية المعاصرة التي أدت إلى تسليع الإنسان وتشيئته. ويعنى الإتجار بالجسد من خلال تسويقه” وبيعه” عبر وسائل الإعلام المختلفة. خاصة الجسد الأنثوي الذي تشهد صورته حضورا مكثفا بل مفرطا في الصحف والمجلات والتلفزيون والسينما والرسائل الإشهارية بمختلف وسائطها، وبرامج مسابقات ملكات وملوك الجمال وعروض  الأزياء والفيديو كليب ،وصيحات الموضة.. بهدف لفت انتباه المتلقي وإثارته من خلال الجاذبية الجمالية والغريزية للجسد.” [4] والتخلص من تلك الحقوق غير الإنسانية وغير القانونية أمر يندر وجوده لأنه يتطلب صدقا كبيرا ذاتيا.

 وهذه المعاني دمرتها السلطة فيهم فلا يشعر إنسانيا بشيء تجاه المرأة إلا كما يشعر تجاه الشيء.

المرأة في عقل الذكوري

فالمرأة في عقل الرجل الذكوري أو المرأة الذكورية “فضاء يمارس فيه الرجل طقوسه المتفق عليها في قلاع السلطة البطريركية حيث تمر من العذرية إلى الأمومة. كأنما جسدها يصلح للحل والإنجاب فقط. بكل تأكيد شكلت المرأة في الذهنية الذكورية المهيمنة الكائن المستضعف الذي لا يستطيع حماية نفسه. ولا تمثيلها إلا بالانطواء تحت رحمة الآخر الذي ينظر إليه على أنه شيء من الأشياء الخاصة. وهو ما ساهم في عبودية المرأة الجسدية أو الاقتصادية والأسرية وبالتالي زجها على الهامش المعتم بحكم هيمنة قيم ومعتقدات وأفكار. وسلطات متحيزة تتعامل مع المرأة جسدا ومتعة.”

المراجع:

  1. فى الجنس والسبب ريتشارد بوزنر
  2. الجنس والفزع لباسكال كينيار
  3. بودلير ، قلبى عاريا
  4. قواسم بن عيسى،ميديولجيا الجسد بين التنميط الاستطيقي والتبضيع التجاري
  5. سليم سهلي،بروقي وسيلة،البناء الفوقي وتعنيف الجسد الأنثوي في الأسرة التقليدية

القبيلة والفن ورسالة التنوير. بقلم: عبد القهار الحجاري

القبيلة أقوى هيكل اجتماعي في المجتمعات المُفَوّتة المتأخرة، وأكثر البنى الاجتماعية رجعية، فالولاء لها يضرب في الصميم الولاء للوطن، ويصيب في مقتل مبدأ المواطنة، والفكر الذي لا يتجاوز الإطار القبلي -مهما بدا جذريا وحداثيا- لا يخرج عمليا عن وظيفة استدامة التنظيم الاجتماعي القبلي، وتكريس سيطرة أعيانه المتنفذين في الدولة والمجتمع، ويصب فعليا في محاربة المشروع الديمقراطي الحداثي التواق إلى التغيير العميق في البنى الاجتماعية والثقافية من أجل مجتمع راق منخرط في بناء أفق النهضة، ويؤدي بالنتيجة إلى تكريس الفوات والتأخر.

استمر في القراءة القبيلة والفن ورسالة التنوير. بقلم: عبد القهار الحجاري

الغروب الجزئي> فن السينما/ بقلم: شريف الوكيل

The Sunset Limited

كورماك مكارثي + تومي لي جونز + صامويل جاكسون…هذه الأسماء الثلاثة وحدها ستثير فضولنا بشأن كل ما يتعلق بها ، ولكن إذا كنت تتوقع حكاية غربية أو قوطية قاتمة ، فستكون مفاجأة بعض الشيء ، يستند فيلم “The Sunset Limited” على حكاية لمكارثي وغروره بسيطة للغاية، ومعقدة للغاية، رجلان في حجرة صغيرة، يتحدثان عن كل الأشياء الحياتية، مثل الدين والموت وما إذا كانت الطبيعة البشرية مقنعة للمعاناة أو السعادة. 

وجهتي نظر مختلفتين تمامًا في مناقشة جذابة إلى حد ما ، حيث يتم وضع حدودهما الفكرية والفلسفية في نفس الوقت في مواجهة التحدي وتقويتهما بهدف ميؤوس منه للوصول إلى  نقطة مستحيلة للاتفاق الميتافيزيقي… فإن تعليق عدم التصديق فيما يتعلق بتصوير الإعدادات الواقعية والسلوك العقلاني وتقديم الحوار القابل للتصديق أمر لا غنى عنه تمامًا لتشريح المحتوى الغني (في معظم الأحيان) الذي يستحق التفكير والتأمل، لذلك ربما لم يكن هذا خارج غرفة القيادة العادية لمكارثي… حيث يبدأ الحدث بشيء لا نراه على الشاشة: الأسود (صامويل جاكسون ؛ نعم ، يُشار إلى الشخصيات بالألوان فقط) استطاع سحب الأبيض (تومي لي جونز) من رمي نفسه أمام مسار قطار الأنفاق السريع…  لينتهي بهم الأمر في حجرة بلاك بعد لحظات من الحدث ، ومن ثم تبدأ محادثتهم التي ستتحول من موضوع ثقيل إلى موضوع ثقيل بالطريقة التي نادرًا ما تحدثها المحادثات بين شخصين غريبين.

استمر في القراءة الغروب الجزئي> فن السينما/ بقلم: شريف الوكيل

عن الجسد والنفس. اسبينوزا

من كتاب الأخلاق

إن النفس والجسد شيء واحد، تارة نتصوره بصفة الفكر وطورا بصفة الامتداد مما يجعل نظام الأشياء أو ترابطها هو الأمر نفسه سواء أكانت الطبيعة متصورة على هذا النحو أو ذاك . مما يترتب عنه أن نظام أفعال الجسد وأهوائه تتوافق بالطبع مع نظام أفعال النفس وأهوائها (…) وبالرغم من أن طبيعة الأشياء لا تسمح بأي شك في هذا الشأن فإنني أحسب مع ذلك أن البشر، ما لم نمدهم بتأكيد تجريبي لهذه الحقيقة فانهم سيجدون صعوبة في قبول تقليب هذا الأمر بعقل غير متحيز لشدة اقتناعهم بأن الجسد يتحرك تارة و طورا يكف عن الحركة بأمر من النفس وحدها، ويأتي أفعالا عديدة أخرى متوقفة على إرادة النفس وحدها وعلى طريقتها في التفكير. فلا أحد إلى الآن – والحق يقال – قد بين ما يستطيع الجسد فعله أي أن التجربة لم تعلم أحدا إلى اليوم ما يمكن للجسد بواسطة قوانين طبيعته وحدها، منظورا إليها بما هي جسمية فحسب ، أن يفعله وما لا يمكن له أن يفعله إلا ما كان محددا من قبل النفس . وبالفعل فانه لا يعرف أحد تركيبة الجسد بقدر كبير من الدقة بحيث يمكن له أن يفسر كل وظائفه ، دون أن نفصل الرأي هنا في ما نلاحظه عديد المرات في الدواب مما يتجاوز الفطنة البشرية على نحو كبير أو ما يفعله غالب الأحيان – النائم الماشي ، مما لا يجرأ عليه في يقظته . وإن ذلك ليبين بما فيه الكفاية أن الجسد يستطيع بواسطة قوانين طبيعته وحدها القيام بأشياء كثيرة تحمل النفس على الدهشة. ولا أحد يعرف كذلك كيف تحرك النفس الجسد ولا أية درجة من الحركة تستطيع أن تحدث فيه ، ولا بأي سرعة يمكن لها تحريكه؛ فيترتب عن ذلك إن الذين يقولون إن هذا الفعل أو ذاك من أفعال الجسد متأت من النفس التي لها نفوذ كبير عليه ، إنما يقولون ما لا يعلمون ، وليس لهم من سبيل سوى الاعتراف ، في لغة مموهة، بجهلهم للعلة الحق لفعل لا يثير لديهم أيّة دهشة. بيد أنه قد يقال إننا، سواء أعرفنا بأية وسائل تحرك النفس الجسد أم لم نعرف ذلك ، فإننا – مع ذلك – على بينة بواسطة التجربة أن الجسد سيكون عاطلا لو كانت النفس قاصرة عن التفكير. ونحن نعرف أيضا بالتجربة أنه في مقدور النفس كذلك أن تتكلم أو أن تصمت وأشياء أخرى نظنها بعدئذ خاضعة لأمر النفس .

فأما في ما يتعلق بالحجة الأولى فاني أطلب من الذين يعتمدون التجربة ما إذا لم تكن

هذه التجربة تفيد أيضا أنه إذا كان الجسد من ناحيته ساكنا فان النفس في ذات الوقت

تكون قاصرة عن التفكير، فحينما ينقاد الجسد إلى الراحة في النوم فان النفس تبقى

فعلا نائمة بنومه وليس لها قوة التفكير التي لها أثناء اليقظة ويعرف الجميع بالتجربة أيضا فيما أعتقد أن النفس ليس بوسعها دوما التفكير بنفس القدر في الموضوع

الواحد، وأنه بحسب استعداد الجسد لاستيقاظ صورة هذا الموضوع أو ذاك تكون النفس أكثر استعدادا لاعتبار هذا الموضوع أو ذاك …

و أما عن الحجة الثانية فمن المؤكد أن شؤون البشر ستكون طبعا في حال أفضل لو كان باستطاعتهم أيضا الصمت أو الكلام على حد سواء ؛ بيد أنه ، وقد بيّنت التجربة ذلك بيانا مستفيضا، أن لا شيء أصعب على البشر من التحكم في ألسنتهم وليس أمرا يقصرون فيه قدر تقصيرهم في السيطرة على نوازعهم ، ولذلك يعتقد أغلب الناس أن حرية الفعل لدينا موجودة فحسب فيما يتعلق بالأشياء التي نميل إليها بعض الميل لأنه من الهين علينا إخضاع النزوع بتذكر شيء آخر كثيرا ما نستحضره ، في حين أننا لسنا أحرارا إطلاقا فيما نميل إليه بإقبال شديد لا يحد منه تذكر أي شيء آخر. و إذا كانوا مع ذلك لا يعلمون بالتجربة أننا نندم في عديد المرات على ما قمنا به من أفعال، وأننا في الغالب، عندما تتغلب علينا انفعالات متعارضة ندرك الأفضل ونأتي الأرذل ، فلا شيء يمنعهم عندئذ من الاعتقاد أن كل أفعالنا حرة. وهكذا يظن الرضيع انه يشتهي الحليب بكل حرية، والفتى أنه يريد الثأر من جراء غضبه والجبان انه يريد الفرار، كذلك يظن المخمور أن ما يقوله قرار حر صادر عن النفس في حين أنه يود – حال تخلصه من تأثير الخمر عليه – أن لا يتفوه بما كان قد تفوه به ، كذلك الشأن بالنسبة إلى الهاذي والثرثار والطفل وعدد كبير جدا من الأفراد من نفس الطينة الذين يعتقدون أنهم يتكلمون بقرار حر من النفس في حين أنه ليس بوسعهم التحكم في ما دفعهم إلى الكلام ، تبين التجربة إذن بالقدر نفسه الذي يبينه العقل أن البشر يعتقدون أنهم أحرار، لهذا السبب الوحيد المتمثل في أنهم واعون بأفعالهم وجاهلون بالعلل التي تتحكم فيها، وأن أوامر النفس ليست شيئا آخر سوى النوازع ذاتها، وهي تتغير بالتالي بحسب الاستعداد المتغير للجسد.

سبينوزا

” كتاب الأخلاق “

(اليأس والصبر : وجهان لعملة واحدة) بقلم: شيرين زين الدين/ مصر

*لأوضح لكم الفكرة الرئيسة من مقالي هذا  سأستشهد بالآية الكريمة من سورة لقمان قال تعالى(واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) صدق الله العظيم ..هذه الآية الكريمة تعني أن الله عز وجل أمر بترك الصياح في وجوه الآخرين تهاوناً بهم

* فما بالكم بالأصوات التي تخترق أذني لتفتت رأسي من حناجر البشر في شارع (الملك فيصل) الكبير منهم والصغير!

(وإلى أين أذهب)؟ سأستعيرها من الشاعر  “محمود درويش” بينما لا يمكنني الانتقال من تلك الشقة لأن الإيجار لن يناسبني في المناطق الهادئة، وما الذي  يضمن لي إن أصبحت ثريّة ألا يكونوا كما القدر، يجرون ورائي ويلاحقونني في كل المناطق السكنية؟ أو أصادف أناساً جددا يبدو لي من بعيد أنهم لا بأس بهم وأُدرِكُ الجميع بعد ذلك يعزونني في أفكاري المغلوطة وأُصبح  لا بأس عليّ ،فأنا (لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثره).. وهذه أيضا من قصيدة محمود درويش الذي أشعر أنه لا يُقصِّر معي دائما وأحيانا تكون هناك جملة ناقصة في حياتي فأتخيلهُ وكأنه يُهديها إليّ ليساعدني على التنفيس عن نفسي بشكل فصيح وشاعريّ.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

استمر في القراءة (اليأس والصبر : وجهان لعملة واحدة) بقلم: شيرين زين الدين/ مصر

أوهام الجنوبي. قصة: محمد فيض خالد

اطالِعُ بعينٍ  تتَحاشى أن تَصطدِم بجهامةٍ غَلَّفت تقَاسيم وجهه الأسمر الفاحِم  ، يَشرخُ في عُنفوانٍ مُفتَعل الفَراغ ، مُتأبِّطَا دفاتره ، مُمسِّكَا بيدهِ حقيبةً جِلدية متوسطة القيمة ، تَدلُ هَيئته في هِندامٍ مُتكلِف ، أنّهُ من أربَابِ المِهن المرموقة ، عَلِمتُ لاحِقَا اسمه “عبده ” من أبناءِ الجَنوبِ ، وأبناء الجنوب عِندنا أولئك الذين قضوا دَهرا في تَأرجُحٍ مُتعِب ، ما بينَ جنوبها وشمالها ، لا إلى هؤلاء انتسبوا ، ولا لأولئك ركنوا ، تتَوارى في وجوههم المزمومة ، وشِفاهم الغِلاظ بقَايا كِبرياء سَاذج ، يَدَّعي صاحبنا عَدم اكتراثٍ بالنَّاسِ ، أوصَله أحيانا لأن يكون عَدائيا مغرورا ،  يتَحسَّس تَصرفات من حوَله، يصرفها على سوءِ النّية  ،  جَعلته غرَضَا لأن يكونَ مَنبوذا قَصيَّا ، تتَلاعبُ بهِ الظّنون .

شاءت الأقدارُ أن اقترِبَ منه عند مدخلِ البيتِ بدأته مُسلِّما ، بيد أنّهُ رَدَّ مُتململا ، سُرعَان ما تَحرَكَ يَهزّ كتفيه ، يضربُ الأرضَ في فَورةٍ خَائفا يَترقّبُ  ،  لم أيأس  منه ؛ بمرورِ الوقِت بدأت أعصابه تلين ، هدأت ثائرته قليلا اقَبلَ عليَّ قبولا حَسنا ، وكأنّه يُنقِّبُ عن نواياي  ، تَصَادفنا قُبَالة الممر الرَّئيس ، بادرني  مُحيِّيا  في تلطُّفٍ ، سَألني عن بلدي ، صَمت حِينا ثم بدأ يُغمغمُ ، اخبرني في زَهوٍ بأنّه يعمل مُدرِّسا ، سَرحَ قليلا قبل أن يُكمِلُ :” لقد سَبقَ وأن تزوَّج عمي الأكبر حسن من المنيا “، هَرَشَ رأسه في ارتياحٍ ، وكأنَّه يسَتحضرُ ذكرى عزيزة عليهِ :” أهل المنيا ناس طيبة ، الله يرحمك يا مرات عمي”، ثم عَادَ سيرته الأولى فَزِعَا ، لينصرِف بغيرِ وداعٍ ، سَارت علاقتنا بين مَدٍّ وجَزر ، حاولت استمالته ثانيةً ، بيَد أنّه لم يترك لي المجال ، كُنتُ قد انشغلت عنه ببعضِ أمرٍ،  بينَ الفيَنة والأخرى   تتَراقص سِيرته في المجلسِ ، اتَّخذها القومُ مادة للتَّندرِ ، وبالخُصوصِ  ” جرجس ” عامل البَقالة ، الذي يكره فيهِ عَنجهته الفَارِغة ، يَقُولُ في حُرقةِ الموتور :” دا عامل فيها خبير نووي “، ثم يغَيبُ في ضحكةٍ هِستيريةٍ ، يتَطاير من عَينيهِ رشراش الدَّمع ، انتقلت لمسكنٍ جديد ، لكن زياراتي لم تنقطع عن بَقالةِ ” جرجس ” وفي مرَةٍ قابلت صاحبي أمام بقالته ، بدى في حُرقةِ الانتظار ، فلا يستطيع لها صبرا ، ما إن رآني حتى عَاجَلني بضحكةٍ صَارِخَةٍ ، قائلا في تشفي :” شفت صاحبك الحَرامي عمل إيه؟!”، كان الاستاذ قد تشاجرَ مع زميلٍ له ، بعدما اكتشفَ الأخير جريمته  ، تَعوّد صاحبنا اختلاس ” دجاج ” الرَّجل من ثلاجَتهِ وقت غيابه، يَسلقهُ ليَحصلَ على مَرقهِ ، ثم يعيده حيث كاَنَ ، حتّى جاَء اليوم الذي افتضحَ فيه أمره ، غَادرَ المنطقة بوزرهِ  ، لكنَّ فِعلته المُشينة عَلق إثرها زمنا ، تدر عليهِ مخازي ، تُطَارده حتّى تَطلع الشَّمس من مَغربها .

جدتي. قصة سمية سليمان

جَدَتِي

جْدَّتِي كَانَتْ طَيِّبَةً وَتَنْثُرُ الحبُ لِلطُّيُورِ،

 تَطْبُخُ اكْلَ مُعْتَقٍ بِرَائِحَةِ الْحَقِيقَةِ، تَشْرَبُ

 الشَّايَ وَتَنْتَظِرُ الْأَذَانَ، وَعِنْدَمَا ازْوَرْهَا، اقْبَلْ

 يَدَيْهَا وَانْظُرْ إِلَى زَمَانِهَا وَاتَسَائَلَ، هَلْ

 سَأَكُونُ سَيِّدَةً عَجُوزَةً مِثْلُهَا فِي يَوْمًا مَا؟،

 كَانَتْ مَحْبُوسَةً فِي جَسَدِهَا الْوَاهِنِ، لَكِنَّ

 قَلْبَهَا صَامِدٌ أَمَامَ مُرُورِ السِّنِينَ، حُكِيَ لِي

 خَالَى مَا حَدَثَ يَوْمَ مَوْتِهَا، كُنْتُ وَقْتَهَا فِي

 أَبُوظَبْي،

قَالَ : ظَلَّتْ يَوْمَانِ طَرِيحَةَ الْفِرَاشِ، لَا

 تَسْتَطِيعُ الِاكْلَ، كَانَتْ أَشْرَفَتْ عَلَى الثَّمَانِينَ

 مِنْ عُمْرِهَا، نَائِمَةً عَلَى سَرِيرِهَا، سَرِيرٌ عُمْرِهُ

 مِنْ عُمْرَ الْمَشَاهِدِ الَّتِى عَاشَتْهَا فِي شَقَّتِهَا

 بِحَىِّ سَانْتْ فَاتِيمَا، وَبِحُلُولِ السَّاعِهِ

 الْوَاحِدِهِ صَبَاحًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، كَانَ جَسَدُهَا

 بَارِدٌ جِدًّا، قَالَ خَالَى : عَرَفْتُ انْهَا تَمُوتُ

 وَلِمَ اُسْتُدْعِيَ الطَّبِيبُ اوْ الْإِسْعَافَ، قَالَتْ

 لَهُ : مَاذَا بِي؟ مِنْ هُوَلَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ يَمْلَؤْنَ

 الْغُرْفَةَ مِنْ حَوْلَى؟ قَالَ لَهَا : انْهُمْ مَلَائِكَةٌ

 جَاءُو لِيَاخِذُو رُوحَكَ!

قَالَتْ لَهُ : هَذَا هُوَ الْمَوْتُ؟ هَلْ مِنْ الْمَفْرُوضِ

 انْ اكُونَ خَائِفَةً؟

رَدَّ عَلَيْهَا خَالَى : لَا ابْدًا، لَا تُخَافِي، فَقَطْ

 قَوْلَيْ الشَّهَادَتَيْنِ وَاغْمُضِي عَيْنَيْكِ، نَعَمِ انْتَ تَمُوتِينَ.

بِالْفِعْلِ، اغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا وَاسْتَسْلَمَتْ لِلتَّحَوُّلِ

 الْمُبْهِرِ.

سُمَيَّةُ سُلَيْمَانَ

١٧ فَبْرَايِرَ ٢٠٢٢